ما قاله الموفد الرئاسي الفرنسي بيار دوكان عن المسؤولين اللبنانيين، وراء بعض الجدران المغلقة، أشدّ قساوة بكثير من مواقفه المعلنة. فهو يرى أنّ القوى السياسية التي تدير البلد غير جديرة بإدارة عملية الإنقاذ المطلوبة، وأنها لم ولن تغيِّر شيئاً من سلوكها، على رغم الوعود التي أدرجتها الحكومة في بيانها الوزاري، بالتزام مندرجات «سيدر». وفي اختصار، وصل دوكان إلى الاستنتاج الذي نُقِل عنه في الزيارة السابقة، والذي حاول التخفيف من وطأته: «أنتم في وضع ميؤوس منه».
الرسالة الأبرز في محادثات دوكان هي قوله للمسؤولين: «لم يعُد عندكم تَرَفُ الوقت. انتهت المهلة الممنوحة لكم. والمليارات الآتية من «سيدر» لن نسلِّمكم إدارتها لأننا لا نثق لا في نزاهتكم ولا في جدارتكم. والفرصة الأخيرة أمامكم هي أن تنجزوا الموازنة العامة سريعاً، وأن تترجموا فيها كل وعودكم، فإذا لم تفعلوا فلن نتمكن من تحصيل ما تنتظرونه من مساعدات». وطبعاً، هذا الموقف مكلَّف أن يبلغه دوكان نقلاً عن الرئيس إيمانويل ماكرون.
وكان دوكان طرح في زيارته السابقة أفكاراً، على المستوى المالي، وُصِفت بأنها «قاسية وغير شعبية» في لبنان لتدارك المأزق وتجنّب انهيار وشيك، لكنه اصطدم برفض اللبنانيين الذين أصرّوا على الهندسات التي يتم اعتمادها حالياً. وتمّ إبلاغه أنّ هذه الهندسات لطالما أثبتت جدواها وأنها الأكثر ملاءمة للواقع المالي والنقدي في لبنان.
الموفد الفرنسي مستاء من أنّ القوى السياسية اللبنانية التي هربت من مخاطر الانهيار المالي- النقدي الذي كاد يقع خلال أزمة التأليف الحكومي، وتوافقت على استعجال ولادة الحكومة - تحديداً- من أجل الحصول على أموال «سيدر»، لا تبدو مستعدّة لتغيير شيء في سلوكها وطريقة إدارتها للبلد واقتصاده.
ولذلك، طرح دوكان نوعاً من الوصاية، سواء من جهة باريس أو المؤسسات والهيئات الدولية، في إدارة المشاريع المشمولة بأموال «سيدر»، وهذا يعني فقدان الثقة تماماً بالطاقم السياسي الحاكم.
الأخطر هو أنّ الإدارة اللبنانية المهترئة قد تقف عاجزة عن استيعاب المليارات الآتية، بسبب عجزها وبطئها الشديد وعدم جدارتها في مواكبة المشاريع الكبرى التي اعتاد البنك الدولي وسائر المؤسسات تنفيذها في بلدان أخرى. وسيؤدي ذلك إلى تجميد هذه المشاريع. فالفشل الإداري يعني فشلاً اقتصادياً. وإذا تبيّن ذلك للفرنسيين، فإنّ أموال «سيدر» ستضيع كلياً أو جزئياً. وقد يسحب ماكرون يده من هذه الورشة المرهقة باللياقة والتهذيب المعروفين عن الفرنسيين وديبلوماسييهم. وما عند ماكرون من أزمات ومشاغل داخلية يكفيه.
والقوى السياسية كانت سارعت إلى تأليف الحكومة استباقاً لزيارة كان مقرراً أن يقوم بها الرئيس الفرنسي لبيروت في شباط الفائت، بهدف ترجمة مقررات «سيدر» بنحو طارئ. لكنّ ماكرون أرجأ الزيارة وأرسل موفده حاملاً رسائل شديدة اللهجة إلى المسؤولين مفادها أنّ الوعود الللبنانية الفارغة منذ «باريس 1» إلى «سيدر 1» لم تعد قابلة للتمديد.
وتعتقد مصادر ديبلوماسية أنّ الرئيس الفرنسي الذي يتولّى رعاية الاستقرار اللبناني، باعتباره مصلحة لبنانية وفرنسية، والذي كان له الدور الأبرز في إنهاء الأزمة السياسية في تشرين الثاني 2017، لن يقبل بعد اليوم استمرار لبنان في دور «الولد المدلَّل» وغير المسؤول، وهو لن يكرّر خطأ المساعدة عشوائياً وتحت ضغط الوعود اللبنانية كما كان يحصل منذ ربع قرن.
المصادر تقول: «خلفيات هذا التشدّد في الموقف الفرنسي أبعد من اعتبارات الإصلاح اللبنانية. ففي الفترة التي كان اللبنانيون يتنازعون على عملية تأليف الحكومة، انخرط ماكرون في مواجهاته الاجتماعية - السياسية الطابع، تحت عنوان «السترات الصفر».
وفي الموازاة، تنامت الأزمة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، حول هامش الاستقلالية الفرنسي، والأوروبي عموماً، عن الولايات المتحدة. وتبرز هنا خصوصاً ضغوط ترامب على الأوروبيين للخروج من الاتفاق النووي مع إيران، وضغوطه لإقناعهم بتصنيف «حزب الله»، بشقيه السياسي والعسكري، منظمة إرهابية. وهو ما استجابت إليه بريطانيا أخيراً، فيما يرفضه الفرنسيون والألمان.
إذاً، الصورة هي الآتية: الأميركيون يضغطون على الفرنسيين في ملف «حزب الله» وإيران، ويضغطون على لبنان في السياق ذاته. ويضغط الفرنسيون على لبنان لالتزام الإصلاح والشفافية. ومع أنّ الجميع يريد ضمان الاستقرار اللبناني أيّاً تكن الظروف، فإنّ الكلمة السحرية التي يُجمِع عليها الأميركيون والأوروبيون هي: الفساد.
فالأميركيون يربطون أيضاً بين «حزب الله» والفساد، خصوصاً في القطاع المالي. ويعتبرون أنّ المصارف اللبنانية، وكذلك المصارف الأوروبية، يمكن أن توفّر لـ«الحزب» قدرة على خرق القطاع المصرفي الأميركي.
وهكذا، يقع لبنان وإدارته بين فكّي كماشة أوروبية - أميركية. ويوماً بعد يوم، تشتدّ القبضة. فهل ما زال ممكناً التهرُّب وتمرير الاستحقاقات؟
على مدى عقود، اعتادت القوى السياسية اللبنانية أن تحصل على المساعدات من الخارج، وأن تطلق الوعود سواءٌ للأوروبيين أو للأميركيين. ولكن، بدأت المؤشرات توحي بانتهاء اللعبة. وتحذيرات دوكان وتشديد العقوبات الأميركية والتراجع المبرمج لتصنيف لبنان السيادي تندرج في هذا السياق، وهي قابلة للتطوُّر.
وإذا كان الأمر سيبدأ بنوع من الوصاية الاقتصادية والمالية والإدارية على لبنان، كشرطٍ لمنعه من الانهيار، فذلك يستتبع ما هو أشدّ خطراً، أي الوصاية الأمنية والسياسية. والفساد سيكون المبرِّر الذي سيتيح للقوى الخارجية الكبرى أن تفرض التسويات على لبنان.