ستكون زيارة الرئيس ميشال عون لموسكو في 25 و26 آذار مِحكّاً مفصلياً. فلبنان في حاجة ماسّة إلى روسيا لمساعدته على الخروج من مأزق كياني يتسبَّب به ملف النازحين. وروسيا في حاجة ماسّة إلى لبنان لأنّ موقعه حيوي في مشروعها التوسّعي في الشرق الأوسط. ومن حيث المبدأ، الطرفان يتمنّيان حصول الصفقة: إنتهاء كابوس النازحين مقابل فتح الأبواب لروسيا. ولكن، هل يستطيعان إبرامها؟
خلاصة ما تبلَّغه الجانب اللبناني من الروس حتى الآن هو الآتي: مسألة النازحين قابلة للمعالجة، ونحن مستعدون لأخذها على عاتقنا والضغط لتحقيق خطوات فيها. ولكن، في المقابل، نريدكم أن تفتحوا لنا الأبواب. نحن لا نريد أن تقفلوها مع أي كان. ولكن، لماذا لا يكون لنا حضور كما لسوانا؟
الروس يطلبون من لبنان أن يكون لهم دور أكبر في 3 مجالات، مالية واقتصادية وعسكرية:
1- أن ينهي لبنان حالة الحذر في التعامل مع شركات الأموال الروسية، من جانب مصرف لبنان المركزي خصوصاً، لتتمكن من الانخراط في السوق اللبنانية. فبالنسبة إلى موسكو، ليس هناك أفضل من لبنان نقطة التقاء محورية بين الشرق الأوسط والعالم.
ويَطْمَئِنُّ الروس كثيراً إلى الرصيد الذي يتمتع به القطاع المصرفي اللبناني. واللبنانيون كذلك مرتاحون إلى هذا التقدير. لكنهم قلقون من عواقب التعاون مع موسكو، في ضوء العقوبات التي تفرضها عليها الولايات المتحدة. ولم تنجح الجهود التي بذلتها حاكمية المصرف المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا في إحداث أي ثغرة في الجدار المسدود.
ولم تنجح فكرة إيجاد إطار وسيط، في أوروبا، للتعاون المالي بين لبنان وروسيا. كما لم تنجح فكرة أن يكون للبنان رصيد مالي بعملات أجنبية أخرى، غير الدولار، يمنحه القدرة على تسديد أكلاف العقود مع موسكو، من دون الوقوع في مأزق مع الأميركيين.
2- تريد موسكو أن تكون لها شراكة وازنة في النشاط الاستثماري اللبناني في المرحلة المقبلة. وفي أي حال، هي حجزت موقعاً من خلال شركة «نوفاتك»، ضمن تحالف مع شركتي «توتال» الفرنسية و«إيني» الإيطالية، التي وقعت عقوداً للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية.
وأخيراً، وقّعت شركة «روسنفط»، أكبر منتج للنفط في روسيا، عقداً لتطوير منشآت تخزين النفط في طرابلس. كذلك ستكون لروسيا أولوية في المناقصة التي ستُفتح قريباً في قطاع الغاز والنفط. وتريد روسيا أيضاً أن يكون لها دور أكبر في تطوير البنى التحتية اللبنانية، ولاسيما منها قطاع الكهرباء.
ويرغب الروس في التعاطي مع لبنان كجسرٍ في ورشة إعادة إعمار سوريا، هذه العملية التي سيكون لهم فيها حضور قوي. فيكون لبنان معبراً أساسياً بين أوروبا وسوريا. لكنّ العقوبات الأميركية وتردُّد القطاع المصرفي اللبناني في الانفتاح على القطاع المصرفي الروسي لا يتيحان أن تتحقق هذه الرغبة بسهولة.
3- يريد الروس من لبنان إبرام اتفاق التعاون العسكري العالق منذ أكثر من عام، والقاضي بتزويد الجيش اللبناني معداتٍ بقيمة مليار دولار يسدِّدها لبنان خلال 15 عاماً. وفترة الاتفاق 5 سنوات قابلة للتجديد، وهو يتضمن إقامة تدريبات مشتركة وتنسيقاً في مجال المعلومات العسكرية والمواجهة مع الارهاب.
لكنّ لبنان يحاذر الدخول في هذه المغامرة لئلّا يثير استياء الولايات المتحدة التي قدَّمت للجيش مساعدات مجانية بما يقارب الملياري دولار على مدى أكثر من عقد، إضافة إلى التدريب والتعاون اللوجستي. وسلاح الجيش عموماً يبقى حتى اليوم أميركياً في الدرجة الأولى.
إذاً، هذه هي مطالب روسيا، بل الشروط التي تطرحها على لبنان، مقابل أن ترمي بثقلها في ملف النازحين، وفق المبادرة التي أطلقتها، والتي تعهدت من خلالها بتأمين عودة ما يقارب الـ900 ألف نازح، علماً أنّ الرقم اللبناني يصل إلى مليون ونصف مليون.
ووفق المطلعين، يطمح عون إلى الاتفاق مع الرئيس فلاديمير بوتين، في القمة المنتظرة، على برنامج تتعهّد موسكو ضمانه، في ملف عودة النازحين. وثمة مَن يتحدث عن أفكار يجري تداولها في هذا الشأن، وتتضمن الخطوات الآتية:
1- يُصدِر الرئيس بشّار الأسد عفواً عن المطلوبين، خصوصاً في ما يتعلق بالمتخلفين عن الخدمة العسكرية، ما يتيح لكثيرين منهم أن يعودوا إلى بلادهم.
2- يتعهّد الأسد بتوفير الأمن لجميع العائدين، أيّاً تكن انتماءاتهم، هم وعائلاتهم، من خلال شمولهم بالعفو.
3- تبعث الحكومة السورية بتطمينات وتتخذ إجراءات توفّر للعائدين الثقة في أنّ أملاكهم ما زالت ملكاً لهم.
4- إنشاء منطقة آمنة على الأراضي السورية، تحت إشراف الحكومة السورية وروسيا، يجري نقل العائدين إليها في مرحلة انتظار الإعمار. ويتم إيواء هؤلاء، في هذه المنطقة، ضمن بيوت جاهزة ومخيمات سكنية موقّتة يجري تمويل بنائها من تبرعات الجهات الدولية المانحة. ويتردّد أنّ ألمانيا وبولونيا في طليعة الدول التي أبدت استعدادها للمشاركة في التمويل.
وفي هذه الحال، يصبح دور المفوضية العليا للاجئين تقديم المساعدات للنازحين داخل بلدهم، لا في بلدان النزوح، في انتظار استكمال عملية الإعمار وعودة هؤلاء إلى المناطق التي نزحوا منها. وهذا هو الطرح الذي تقدّم به وزير الخارجية جبران باسيل في مؤتمر بروكسل أخيراً.
وكانت تقارير تحدثت، في صيف 2017، عن أنّ مستشار الأمن القومي الروسي طرح على نظيره الأميركي في جنيف فكرة أن تدخل قوات روسية من سوريا إلى البقاع، في مهمة تستمر 3 أشهر، وبالتنسيق مع الجانبين اللبناني والسوري، يتم خلالها توفير معبر يعود من خلاله النازحون إلى المناطق الآمنة في سوريا. لكنّ الجانب الأميركي لم يقتنع بصوابية هذه الفكرة.
إذاً، عون، الآتي بعد لقاء وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو (إذا لم يُلغِ زيارة بيروت في اللحظات الأخيرة)، سيكون أمام التحدّي: هل يمكن للبنان أن يستجيب للشروط الروسية؟
على الأرجح، لن تُبرَم الصفقة. فلا يمكن للبنان المغامرة بأن يحصل من روسيا (كما من إيران) على دعم، أو وعود بالدعم، فيما هو يطلب النجدة من الولايات المتحدة وأوروبا والعرب للخروج من مأزقه المالي والاقتصادي الخانق وتوفير التغطية السياسية.
ولكن ذلك لا يمنع من أن تأتي الزيارة بإيجابيات في تطوير العلاقات بين لبنان وروسيا، خصوصاً على المستوى الاستثماري، تحت السقف الذي لا يستفزّ واشنطن.
وهنا يبدو لبنان مجدداً أمام المعادلة السحرية التي كُتِبَ عليه أن يفتِّش عنها دائماً، معادلة الحلول الوسطى التي تُرضي الجميع. وهذا ليس سهلاً: حلول وسطى بين الولايات المتحدة والأوروبيين وروسيا والصين، وحلول وسطى بين السعودية وإيران.
المهم أن يُوفَّق بهذه المعادلة السحرية، فلا يذهب «فرق عملة» أو يضع رِجلاً هنا ورِجلاً هناك فـ«ينفسخ»!