وّجت تركيا في الأسبوع الماضي لإعلانين منفصلين تجمعهما وحدة الهدف والدلالة/ الأول ادّعت فيه بأنّ تركيا تعدّ اوأنها على استعداد لعمل عسكري مشترك مع إيران في شمال سورية، في عملية تصبّ في خدمة مخرجات استانة وتفاهماتها حول سورية من باب محاربة الإرهاب وإنشاء المنطقة الأمنية التي تخطط تركيا لإنشائها في الشمال السوري على مساحة 13000 كلم 2 وبعمق ما بين 30 الى 40 كلم وجبهة لا تقلّ عن 450 كلم.
اما الإعلان الثاني فتضمّن القول بأنّ تركيا بدأت بتسيير الدوريات هي وروسيا في منطقة إدلب وفقاً لمضمون اتفاق سوتشي الذي اعتمده الطرفان في أيلول من العام الماضي 2018، الاتفاق الذي استنكفت تركيا طيلة الأشهر الماضية من عمر الاتفاق عن تطبيقه، حتى أصبح منطقياً ومبرّراً القول إنّ الاتفاق سقط وإنّ إدلب بحاجة الى عمل وأداء آخر لإنقاذها من الإرهابيين لا يكون الاتفاق معبراً له.
مع ترويج تركيا لهذين الإعلانين اللذين أظهر الميدان انفصالهما أو بعدهما عن الحقيقة والواقع، يسأل المراقب عن السبب الذي حدا بتركيا الى اختلاق هذا الأمر وزجّ الدولتين الأخريين فيه، وهما اللتان تشكلان مع تركيا منظومة الرعاية في استانة التي نشأت أصلاً من أجل ضبط المسارات العسكرية في سورية بما يؤدّي الى تصفية الإرهاب وإنتاج بيئة ملائمة للانطلاق في حلّ سياسي يضمن وحدة سورية واستقلالها وسيادتها على أرضها، أما تركيا فقد تعاملت مع هذه المنظومة بازدواجية واضحة وبوقاحة ظاهرة حيث انها كانت تلتزم في استانة أو سوتشي بالتفاهم أو بالقرار الذي يتمّ اعتماده، ثم تعود إلى الميدان وتمارس ما يعاكس التزامها ويخدم مشروعها الخاص في طبعته الأخيرة، والذي يتناقض مع كلّ ما يُقال عن وحدة سورية واستقلالها.
ففي أيلول/ سبتمبر 2018 اعتمدت في سوتشي في لقاء قمة بين بوتين وأردوغان خطة عمل لتطبيقها في إدلب تتضمّن حلاً مرحلياً متدرّجاً يفضي الى التهدئة ثم فصل الإرهابيين عما يسمّونه «معارضة مسلحة» ثم إخراج الإرهابيين من المنطقة وتطهيرها منهم كلياً ثم إقامة نظام أمني تتشارك فيه روسيا وتركيا لمسك الأمور في إدلب لينتهي المطاف في الأخير ومتزامناً مع انطلاق الحلّ السياسي الى إعادة إدلب الى كنف الدولة السورية من غير ان يكون فيها إرهاب يفسد أمنها أو احتلال تركي يعطل ممارسة السيادة السورية عليها. وكان واضحاً انّ عملية وقف إطلاق النار وفصل الإرهابيين عن «المعارضة المسلحة» هما المفتاح لتطبيق هذا الاتفاق، وهو المفتاح الذي أنيط بتركيا العمل به وأسندت إليها مسؤولية تنفيذه ميدانياً.
لكن تركيا لم تقم بشيء من موجباتها في هذا الاتفاق، بل قامت بالعكس حيث استعملت ما لديها من نفوذ على «جبهة النصرة» الإرهابية والإرهابيين الآخرين، وأقدمت على ما يمكن تسميته بـ «توحيد البندقية الإرهابية» على مساحة 90 من المساحة التي يسيطر عليها الإرهاب في منطقة إدلب، في عملية قيل إنها «اقتتال بين الإرهابيين» وكانت في حقيقتها مناورة لتسليم جبهة النصرة الإرهابية كامل المنطقة تلك، ما مكّن الإرهابيين من التفرّغ لشنّ عمليات إجرامية مركزة ضدّ مواقع الجيش السوري المحيطة بالمنطقة والتي كانت تعدّ لتكون قواعد انطلاق الجيش العربي السوري لتحرير إدلب في العملية التي كان مقيّضاً لها ان تنطلق لو لم يحصل اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا ويلبّي رغبة تركيا بتجنّب العمل العسكري السوري لاستعادة المنطقة. وكان من المنطقي التوقف عن الدور التركي في عملية جبهة النصرة والاستخلاص بأنّ تنفيذ اتفاق سوتشي بصدق لن يكون له بعد ذلك محلّ في القاموس التركي.
الأمر الذي يتأكد أيضا اليوم بنتيجة التطورات الميدانية والسياسية، حيث بات واضحاً أنّ تركيا تلعب في سورية على أكثر من حبل، فتتظاهر بأنها ملتزمة بمخرجات استانة وتفاهماتها ومقرّرات سوتشي وتعهّداتها، مع حرصها الشديد على المحافظة على علاقاتها مع أميركا والعمل بما يخدم الاستراتيجية الأميركية القائمة على نظرية «إطالة أمد الصراع في سورية»، وأخيراً وهذا هو الأهمّ فهي تعمل وبجدية لتنفيذ مشروعها الخاص القائم على وضع اليد على منطقة سورية توفر الإقامة لـ 7 ملايين سوري تضعهم تحت سيطرتها ليكونوا ممسوكين بيدها ما يمكّنها من التحكم بالقرار السياسي السوري 4 ملايين في المنطقة الآمنة و3 ملايين في إدلب .
ومن أجل النجاح في هذه المناورات المتعددة الأشكال والأهداف، تجد تركيا أنها بحاجة لأمور ثلاثة: الأول ضمان استمرارها في منظومة استانة الثلاثية مع كلّ من إيران وروسيا، لانّ هذه المنظومة تشكل لها مظلة تحتاجها لتبرير وجودها بشكل أو بآخر في المسألة السورية سياسياً وعسكرياً ما يسهّل عليها تمرير مشروعها الخاص، والثاني ضمان استمرار الوضع في إدلب على حاله من غير حسم عسكري قد يقدم عليه الجيش السوري، والثالث صمان الدعم الأميركي لإقامة المنطقة الآمنة في الشمال بمساحة 13000 كلم2 دون اعتراض جدّي أو دون استفزاز روسيا وإيران.
لأجل ذلك روّجت تركيا بأنها على استعداد لعمل عسكري تركي – إيراني مشترك في الشمال السوري رغم انّ إيران لم تحرك ساكناً ولم تبد أيّ موافقة على هذا التصوّر ، ثم ادّعت بأنّ روسيا بدأت بتسيير دورياتها في منطقة إدلب تزامناً مع الدوريات التركية في الجوار لتقول إنّ اتفاق سوتشي لم يمت وإنه وضع موضع التنفيذ الفعلي وهو أمر يناقض حقيقة ما يجري في الميدان، ولكن تركيا تبتغي من الإعلانين غير الجدّيين تحقيق ما يلي:
طمأنة روسيا وإيران أو الاصحّ خداعهما باستمرار تركيا في العمل المشترك معهما في المسألة السورية، وهذا يضمن لتركيا استمرار مظلة استانة التي تحتاجها.
منع العملية العسكرية السورية لاستعادة إدلب وهي العملية التي باتت بعد الاعتداءات الإرهابية الأخيرة على مواقع الجيش العربي السوري وبعد التصرفات التركية الوقحة، باتت الحلّ الوحيد لاستعادة المنطقة، وهي عملية قد يناقش في توقيتها ربطاً بتهيئة البيئة السياسية والعسكرية الملائمة لنجاحها واستقرارها، ولكن لا يمكن ان يناقش أحد بمبدأ تنفيذها لأنه أصبح ملحاً وضرورياً بشكل نهائي.
توجيه رسالة ميدانية عملية الى أميركا بأنّ تركيا مستمرة في خدمة استراتيجيتها «إطالة أمد الصراع» وأنها ستمنع الحسم العسكري في إدلب.
كسب الوقت لتوفير الظروف المناسبة لنجاح تركيا في إقامة المنطقة الآمنة وفقاً لما تريد.
مع هذه الحقائق والأهداف التركية يطرح السؤال حول مدى تقبّل إيران وروسيا للمناورات التركية ومدى السكوت عنها خاصة أنّ سورية لم تخدع ولن تخدع يوماً بالتصرف التركي، وقد عبّر الرئيس بشار الأسد صراحة وبصوت عال عن حقيقة صورة تركيا في سورية، فسورية لم تثق ولن تثق بتركيا التي كانت ولا زالت رأس حربة العدوان عليها. ولذلك فإننا نرى انّ نجاح تركيا في مناوراتها وإمكانية تحقيقها لأهداف هذه المناورات منخفض الاحتمال في ظلّ ما بدأ يتسرّب من مواقف حازمة لإيران وروسيا تأخذ بالاعتبار الموقف السوري الصارم في هذا الشأن.