14 سنة مرّت على يوم 14 آذار 2005 التاريخي، وقد تحوّلت هذه المحطّة الفائقة الأهميّة في تاريخ لبنان الحديث، إلى مُجرّد ذكرى تترافق مع بعض المواقف السياسيّة والإعلاميّة المُتفرّقة. فما الذي أدّى إلى هذه النتيجة، وهل إنتهت حقبة قوى "14 آذار" إلى غير رجعة؟.
لا شكّ أنّه بعد سلسلة من الخلافات الداخليّة ضُمن صُفوف قوى "14 آذار"، وبعد الكثير من تضارب المصالح والرؤى والتكتيكات السياسيّة، وبعد الكثير من الضغوط الداخليّة والدَوليّة على هذه القوى والكثير من الإغتيالات ومُحاولات الإغتيال التي إستهدفت رموزها، طُويت صفحة قوى "14 آذار" بالمفهوم التقليدي الذي إنطلقت منه، وتحوّلت إلى مجموعات مُتفرّقة تتكوّن من جهات سياسيّة وشخصيّات تلتقي على بعض المبادئ العامة والعريضة، والتي تختلف أيضًا في أحيان أخرى بشأن أفضل السُبل للحفاظ على روحيّة "14 آذار" ولتطبيق خُطة الطريق التي رُسمت في أوائل مراحل "ثورة الأرز".
والإنقسام الحالي ضُمن قوى "14 آذار" السابقة يتمحور حول قضيّة إستراتيجيّة تتفرّع منها العديد من القضايا الأخرى الأقلّ أهميّة. وفي هذا السياق، يُوجد فريق من القوى والشخصيّات المَحسوبة سياسيًا على "14 آذار" يُصرّ على أنّ لا قيام للجمهوريّة اللبنانيّة الحُرّة والمُستقلّة والديمقراطيّة، ولدولة القانون والمًؤسّسات والعدالة، ما لم تتمّ أوّلاً مُعالجة مُشكلة "الدُويلة" داخل الدولة، وتحديدًا مُشكلة سلاح "حزب الله" المُرتبط بأجندات خارجيّة وإقليميّة. وبحسب هذا الفريق، إنّ خريطة الطريق لتحقيق هذا الهدف تمرّ حتمًا بمُواجهة سياسيّة وإعلاميّة مفتوحة مع "الحزب"، لا مجال فيها للتراجع عن مطلب تسليم سلاح "حزب الله" إلى الدولة، وعن مطلبي ضرورة إنضواء "الحزب" تحت كنف القوانين اللبنانيّة والدَوليّة، وضرورة عدم التدخّل في النزاعات والصراعات الإقليميّة.
في المُقابل، يُوجد فريق آخر من القوى والشخصيّات المَحسوبة سياسيًا على "14 آذار" يُؤمن بكل ما سبق من الناحية النظريّة، لكنّه لا يجد سبيلاً لتحقيقه ميدانيًا وعلى أرض الواقع، سوى بالعمل السياسي الواقعي من داخل المؤسّسات. وبحسب هذا الفريق، إنّ تجربة المُواجهة السياسيّة والإعلاميّة المُفتوحة مع "حزب الله" لم تُحقّق الأهداف المرجوّة خلال السنوات الماضية، ما إستوجب إعتماد تكتيكات جديدة في مُقاربة ملف سلاح "الحزب" وفي السعي لإعادته إلى لبنان، تقوم على مُساكنة "الحزب" والإعتراف به كمُمثّل لشريحة من اللبنانيّين، بالتزامن مع العمل على تقوية الدولة وتعزيز نُفوذها، وعلى تفعيل مُؤسّساتها الأمنيّة والإداريّة على إختلافها، لأنّ الدولة القويّة تُمثّل نقيضًا لأي دُويلة ظرفيّة لا يُمكن إلا أن تنتهي في يوم من الأيّام مع إنتفاء أسباب وُجودها وإنقطاع مصادر دعمها وتمويلها.
لكنّ هذا الخلاف الإستراتيجي، تسبّب بإنقسام قوى "14 آذار" بشكل كبير، بحيث تردّت العلاقات بين قوى وشخصيّات محسوبة نظريًا على خطّ سياسيّ واحد. وكثرت الإتهامات المُتبادلة، بحيث صارت تُهمة الخُضوع لإملاءات "حزب الله" مَرفوعة بوجه كل من تيّار "المُستقبل" وحزب "القوّات اللبنانيّة" والحزب "التقدّمي الإشتراكي" بحجّة تقديم المصالح الحزبيّة والمنافع الشخصيّة الضيّقة على شعارات ومبادئ "14 آذار"، الأمر الذي ردّ عليه المُتَهمون المَذكورون بالتشديد على أنّ الشعارات النظريّة والتصاريح الشعبويّة لا تصلح في المُواجهات السياسيّة الجدّية، خاصة متى ما كانت صادرة عن قوى وشخصيّات ثبت بالأرقام أنّها لا تُمثّل سوى بضعة آلاف من المُناصرين في عدد من المناطق المحدودة، أي أنّها تفتقر للإمتداد السياسي والشعبي الفاعل والمُؤثّر في الحياة السياسيّة الداخليّة. وبحسب هذه الأحزاب الثلاثة المذكورة، إنّ إستعادة الدولة يكون بالعمل من داخلها، ولوّ إقتضى الأمر القيام ببعض التضحيات السياسيّة وتقديم بعض التنازلات الشخصيّة، لصالح إعادة دوران عجلة الدولة، وإعادة تنشيط مُؤسّساتها، في ظلّ سعي كامل ومُستمرّ لحصر السلاح بيد الجيش اللبناني، ولحصر الحركة السياسيّة الخارجيّة للبنان، بالشرعيّة اللبنانيّة وبمؤسّساتها الرسميّة.
في الخُلاصة، إنّ الخلاف في الرؤية الإستراتيجيّة الذي أبعد اللواء المتقاعد أشرف ريفي عن رئيس الحكومة سعد الحريري، والنائب السابق فارس سعيد عن رئيس حزب "القوات" سمير جعجع، على سبيل المثال لا الحصر، لا يزال قائمًا اليوم، وهو ما حوّل قوى "14 آذار" إلى ذكرى. لكنّ الأكيد أيضًا أنّ الصراع العقائدي لا يقتصر على أفرقاء قوى "14 آذار" السابقين والمُشتّتين حاليًا، في مُقابل "حزب الله" وكل قوى "8 آذار" السابقة والتي تُغرّد تحت جناحيه، حيث أنّ دورًا حاسمًا ومحوريًا يطال "التيّار الوطني الحُرّ"، لجهة تنشيط المساعي نحو تعزيز نُفوذ الدولة على حساب "الدويلة"، أو العكس. وهذا ما سيتظهّر بوضوح خلال ما تبقّى من عهد الرئيس العماد ميشال عون، بحيث إمّا تتمّ الدعوة إلى مُناقشة جدّية وفعليّة للإستراتيجيّة الدفاعيّة للبنان، وإلى تطبيق سياسة نأي بالنفس فعليّة وشاملة، وإمّا تكون المُهادنة والمُساكنة مع "الحزب" قد تحوّلت إلى واقع لا يُمكن لأيّ جهة سياسيّة التفلّت منه في المُستقبل القريب.