قبل عام تقريبا كان صوت فخامة رئيس الجمهورية يصدح في كل مناسبة، ومن فوق كل منبر، بتقديم مقاربة لملف عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، ينطلق من حجم الآثار والمخاطر والمخاوف من إبقاء هاذ الملف معلقا، ومن إدراك لخطورة ما يدبر في بعض الدوائر الدولية من مشاريع للدمج والتوطين، تكشفها مضامين المداخلات وعروض الموازنات وشروط إنفاقها ووجهة توظيفها، وكانت الذروة في موقف رئيس الجمهورية ومعه وزير الخارجية ووزارة الخارجية، في رفع الصوت رفضا للموقف الأممي الرسمي الذي يربط العودة بالحل السياسي الشامل للأزمة السورية، والإصرار على فك الإرتباط بين العودة وأي شرط سوى تأمين ظروف ملائمة للعائدين، وقد شهدت كلمة الرئيس في الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وما تلاها من مناقشات ومداخلات جانبية على عمق الخلاف بين النظرتين اللبنانية والأممية للعودة وشروطها، حيث قال الرئيس في كلمته التي سمعها العالم كله :
- النازحون تجاوزوا منذ العام 2014 وحتى اليوم المليون ونصف المليون
- نؤكد على حق العودة الكريمة والآمنة والمستدامة للنازحين
- نرفض كل مماطلة أو مقايضة في هذا الملف الكياني أو ربطه بحل سياسي
- نرفض قطعاً أي مشروع توطين سواء لنازح أو للاجئ
رغم حدة الخلاف بقي الرئيس ووزير الخارجية ووزارة الخارجية على مواقفهم وزادوا في المواظبة والمثابرة على قناعاتهم الوطنية ومضمون المبادرة اللبنانية، وأقاموا كل ما يلزم من مراسلات واتصالات واجتماعات لتوسيع دائرة تأثيرها، ووضعها الدائم في التداول كأولوية وطنية لبنانية. .
خرج الكثيرون يتحدثون عن ما وصفوه بعناد غير مجد يتمترس وراءه الرئيس ووزير الخارجية، فالأمر بنظرهم ليس مجرد خلاف مع شخص يتبوأ مسوؤلية في منظمة أممية، بل مع سياسات دول عظمى تتبلور عبر المؤسسات الأممية، وهم إذا كانوا على حق في التوصيف فقد جانبوا الحقيقة في الإستنتاج بالدعوة للتراجع عن موقف وطني، ذلك أن أحدا منهم لم يقل أن مضمون الموقف والمبادرة لا يعبر عن مصلحة وطنية .
بعض قليل حاول النيل من خلفية موقف الرئيس والقول أن الهدف الحقيقي للموقف والمبادرة هو تعويم المؤسسات الحاكمة في سورية، وفرض العلاقات المباشرة معها على لبنان، ولم يقدم هؤلاء سببا وجيها لدعوة لبنان للإمتناع عن التنسيق مع المؤسسات الحكومية السورية، طالما القضية موضع إجماع وطني على مكانتها بين الأولويات، وطالما أن الدولة السورية تتمتع بعضوية الأمم المتحدة بتمثيل نابع من هذه المؤسسات الحكومية السورية .
بقيت الأسئلة حول النتائج العملية هي مصدر القوة الوحيد الذي يقف خلفه المعترضون، وبعضهم كان يتندر بلغة التحدي، متسائلا عن الجدوى من هذا العناد، حاسمين جازمين أن لا شيء سيتغير في السياسات الدولية بفعل هذا العناد، الذي نسميه ثباتا على الحق، ولم تنج من النقد والتهكم أحيانا موجات العودة التي قادتها الدولة ممثلة بالأمن العام اللبناني بتوجيهات من رئيس الجمهورية، بإعتبارها لا تقدم ولا تؤخر وأرقام العائدين المحدودة لا تقارن بمجموع أعداد النازحين المقيمين في لبنان، حتى جاءت زيارة المفوض السامي لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة السيد فيليبو غراندي إلى لبنان، بعد زيارة إستمرت لثلاثة أيام أمضاها في دمشق، اطلع خلالها على أوضاع النازحين العائدين من لبنان وظروفهم، كما قال في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، وكما تناقلت وسائل الإعلام عن لسانه، مؤكدا ارتياحه لظروف العودة والإقامة، مضيفا أنه سيضع جهود المفوضية للتنسيق مع كل من الحكومتين اللبنانية والسورية لتزخيم هذا النوع من العودة، بعيدا عن اي شروط إضافية، لشروط العودة الكريمة واللائقة، داعيا إلى بعض الصبر ريثما تتمكن منظمته من تحقيق ما يدعو إليه لبنان من نقل المساعدات التي تقدمها للنازحين في لبنان إلى سورية عند عودتهم، باعتبار هذه المساعدات ستبقى حاجة للعائدين من جهة، ولأن ربط تقديمها ببقائهم في لبنان يشكل عنصر إحباط كبير لكل دعوات العودة .
هذا التحول الكبير في الموقف الأممي يعد إنتصارا لموقف لبنان ورئيسه ووزير خارجيتة، كما يعد إثباتا نقيا لما يحققه الثبات على الموقف الوطني، عندما يكون منزها عن أية غايات أخرى، من قدرة على تغيير معادلات كانت تبدو غير قابلة للتعديل .
نأمل أن الاعتراضات التي كنا نسمعها كانت تنطلق من حسن نية وسوء تقدير، ولذلك نرغب بسماع شهادة الحق لمواقف رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، كي لا يقال أن الإعتراض كان نابعا من سوء في النية عززه سوء التقدير.