فيما كان رئيس الحكومة سعد الحريري يرأس الوفد اللبناني، الذي أثيرت الكثير من التحفّظات حوله، إلى مؤتمر بروكسيل الخاص بالنازحين السوريين، كان وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل يصوّب على المؤتمر الذي تغيّب عنه، عن قصد، قائلاً إنّ "هذه المؤتمرات تموّل بقاء النازحين في مكانهم، ونحن نريد أن تموّل عودتهم لبلدهم بكل بساطة".
وإذا كان صحيحاً أنّ الاختلاف في مقاربة ملف النازحين بين الحريري والفريق الذي يمثّله من جهة، وباسيل والفريق الذي يمثّله من جهة ثانية، ليس بجديد، باعتبار أنّ مفهوم العودة "الطوعية" أو "الآمنة" سبق أن فرّقهما، إلا أنّ تجلياته جاءت في لحظةٍ فارقةٍ ازدادت فيها مساحات "التباين" بين طرفي "التسوية الرئاسية"، ما أوحى بأنّ الحكومة مقبلة على خلافاتٍ جديدةٍ تهدّد تضامنها.
ولعلّ اللافت للانتباه، وسط كلّ ذلك، أنّ الحريري بدأ يتخلى عن دور "المتفرّج"، الذي لعبه طيلة الأشهر الماضية، قبل وبعد تشكيل حكومته الجديدة، ويتجاوز سياسة "النأي بالنفس" التي ارتضاها لنفسه، حتى إزاء ما اعتبرها كثيرون "مصادرة" لصلاحياته كرئيس للحكومة، ما يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كان الرجل بدأ "يتحرّر" من أعباء "التسوية" التي كبّلته، وعلى أيّ أساس؟!.
الاقتصاد أولاً
منذ ما قبل تشكيل حكومته، يتصرّف رئيس الحكومة سعد الحريري مع التطورات، سواء التي تعنيه مباشرةً أو غير مباشرةً، بقلّة اكتراث، مطبّقاً سياسة "النأي بالنفس" إزاءها، سياسة يبرّرها بأنّ الأولوية اليوم ليست للمناكفات السياسية غير المجدية، بقدر ما يفترض أن تتركّز أولاً وأخيراً على إصلاح الوضع الاقتصادي، وإطلاق الورشة الموعودة، والواعدة بالنهضة الشاملة، تطبيقاً لمقرّرات مؤتمر "سيدر"، التي يبدو لبنان مهدَّداً بـ"تضييعها" إذا لم يحسن التصرف قبل فوات الأوان.
وعلى رغم "واقعيّة" كلام الحريري، بالنظر إلى الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة التي يئنّ تحت ثقلها اللبنانيون منذ زمن، فإنّ سلوكه بدا مستغرَباً بالنسبة لكثيرين، خصوصاً في الجلسة الأولى لمجلس الوزراء التي لعب فيها دور "المتفرّج" بامتياز، فيما كان رئيس الجمهورية ميشال عون يضرب على الطاولة، ويرفع الجلسة اعتراضاً على بعض المداخلات، وهو ما رأى فيه البعض استكمالاً لنهجٍ كان بدأ في مرحلة تأليف الحكومة، حين ارتضى الحريري على نفسه "الاعتكاف"، تاركاً لعون وباسيل، وربما غيرهما، تأليف الحكومة نيابةً عنه، واستدعاءه عندما تُحَلّ الخلافات، وتصبح التشكيلة جاهزة.
ولعلّ هذا "النأي بالنفس" برز أيضاً، بصورة أو بأخرى، في أداء الحريري إزاء معركة "مكافحة الفساد" التي اختار "حزب الله" أن يطلقها من عقر داره، مستهدفاً رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة. هنا، اختار الحريري أن يترك لكتلته النيابية دور الدفاع عن السنيورة، فيما انكفأ هو عن الكلام المُباح، فتغيّب عن المؤتمر الصحافي الذي عقده الأخير للدفاع عن نفسه، ولو أنّ السنيورة حرص على القول يومها بأنّ الحريري داعمٌ له بالمُطلَق. وفيما لم يصدر عن رئيس الحكومة أيّ كلامٍ واضحٍ من هذه المسألة، كان لافتاً حديثه عن اتفاقٍ مع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب على المضيّ في المعركة ضدّ الفاسدين، وعلى عدم وجود "غطاء لأي مرتكب، كائناً من كان".
ما الذي تغيّر؟
في الأيام الماضية، بدا أنّ شيئاً ما تغيّر في "استراتيجيّة" الحريري، ليس بمعنى أنّ الرجل لم يعد يريد إعطاء الأولوية للورشة الإصلاحيّة الموعودة اقتصادياً، ولكن ببساطة، بمعنى أنّه بدأ يتخلّى عن سياسة "الصمت" أو "النأي بالنفس"، لصالح سياسة أخرى، أكثر حزماً بطبيعة الحال.
ولعلّ هذا الأمر ظهر بوضوح لا لبس فيه، من خلال طريقة مقاربة رئيس الحكومة للأزمة التي سبّبها "تغييب" وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب عن الوفد اللبناني إلى بروكسيل، والموقف الحازم الذي أطلقه إزاءها. فمع أنّ مسؤولين في "تيار المستقبل" حاولوا "الهروب" من الأمر بالقول إنّ الاتحاد الأوروبي هو من تولّى أمر الدعوات، لم يسعَ الحريري إلى "ترقيع" الموقف، ولا إلى ضمّ الغريب إلى وفده الخاص، ما كان من شأنه تجنيب البلاد الأزمة، بل اختار المواجهة بصوتٍ عالٍ، معلناً من قصر بعبدا بالتحديد، رفضه لما صدر عن الغريب من بيان احتجاجيّ وجد أنّه غير مناسب.
أوحى كلام الحريري، معطوفاً على ما تسرّب من الكواليس السياسية، بوجود "تحوّل" ما على صعيد إدارته للحكومة، بما قد ينعكس أيضاً على صعيد علاقته بـ "التيار الوطني الحر"، وهو ما تلقّفه الأخير بشكلٍ أو بآخر، فلاقاه بمنتصف الطريق، من خلال حديثٍ "متقدّم" للوزير جبران باسيل، في إطار معركة الفساد، بعد "دبلوماسية" حرص على اتّباعها في الآونة الأخيرة. ففي العشاء السنوي للتيّار، قال باسيل إنّ "الإبراء المستحيل صار قانوناً، وحشرْنا الفساد واضطر الى أن يتغطّى بالمذهبيّة"، في إشارة واضحةٍ إلى السنيورة، وتكرار لما ورد من تسريباتٍ تلفزيونيّة، سبق أن "تبرّأ" منها بنفسه.
ولعلّ ما يزيد من توجّس "التيار" على هذا الصعيد، يتمثّل بالمصالحة التي ذهب إليها الحريري مع الوزير السابق أشرف ريفي، الرافض لـ"التسوية الرئاسيّة" حتى العظم، ولو أنّها بدت مرتبطة حصراً باستحقاق الانتخابات الفرعيّة في طرابلس، علماً أنّ ثمّة من يقول إنّ التغييرات الواضحة في سياسة الحريري مرتبطة أولاً وأخيراً، بزيارته الأخيرة إلى المملكة العربيّة السعوديّة، واللقاءات التي عقدها فيها وتُوّجت بلقاء مع الملك سلمان بن عبد العزيز، تكريساً لـ"صفحة جديدة" فُتِحت منذ فترة بين الجانبين، ويبدو أنّها وصلت إلى أوجها اليوم، خصوصاً بعد رفع المملكة الحظر على سفر مواطنيها إلى لبنان، ما أعاد "الروح" إلى "الشيخ سعد"، لمواجهة الخصوم، وعلى رأسهم "حزب الله" والمحسوبون عليه.
"عواصف" منتظرة...
قد يكون من المبالغة بمكان القول إنّ سياسة الحريري المستجدّة تأتي تنفيذاً لمطلبٍ إقليميّ، من المملكة العربيّة السعوديّة أو غيرها، أو استباقاً لزيارة وزير الخارجيّة الأميركي مايك بومبيو، انطلاقاً من رهان على الولايات المتّحدة، التي لم يعد خافياً على أحد وجود "استياء" لديها من أداء "العهد"، وتحديداً الرئيس ميشال عون.
لكن قد يكون من المبالغة بمكان أيضاً القول إنّ السياسة الجديدة لرئيس الحكومة، من شأنها أن تهدّد حكومته في الصميم، خصوصاً أنّ جميع الأفرقاء كانوا يعلمون سلفاً بأنّ حكومة التوافق، التي أصرّوا عليها، ستواجه الكثير من "العواصف"، كونها تجمع "المتناقضات" في مكان واحد، إلا أنّ المرحلة تقتضي ذلك، وهو ما لم يتغيّر بعد.
لكن من الواقعية بمكان، توقع انعكاسات للمتغيّرات الحاصلة على صعيد الحكومة، التي تنتظرها في القادم من الأيام، قبل وبعد زيارة بومبيو، استحقاقات "خلافيّة" بالجملة، بدءاً من ملف النازحين، وحيثيّات ما حصل في بروكسيل وحولها، وصولاً إلى التعيينات المنتظرة، والتي لا تبشّر طريقة مقاربتها بالخير أبداً...