لم تتمكن فلسفة تعدد الثقافات والحضارات من بلورة مفهوم التعايش وتطبيق مبدأ تقبل الآخر، كما أن قوى الشر المسيطرة على المال والاقتصاد العالمي، لم تستسغ تطبيق مبدأ الديمقراطية الحقيقية وتقبّل تعدّد الأديان السماوية بهدف انتظام العالم واندماجه في مستقبل واحد، ما أدخل العالم في حال من الفوضى أسهمت في تشتيت المفاهيم وتناثر نظريات تطبيق الديمقراطية تطبيقاً صحيحاً، والجنوح نحو انعزال القوميات والإثنيات وتقوقع المجتمعات.
لقد ثبت أنه ليس بمقدور أي قوة في العالم مهما بلغ شأنها، اقتصادية كانت أم عسكرية، من فرض نظام عالمي يضمن العدالة للإنسانية التي تخدم قضايا الشعوب المحقة، وبلوغ الأمن والاستقرار للأوطان في ظل سعي قوى العولمة المهيمنة على دورة المال في العالم للاستئثار بقرار الدول، وخصوصاً تلك التي تمتلك ثروات طبيعية تطبيقاً للنظرية القائلة: «من يسيطر على دورة المال فإنه بالتالي يتمكن من السيطرة على القرار السياسي، بالترهيب أو الترغيب».
إن الديمقراطية الليبرالية الجديدة أضحت شعاراً مطّاطاً، يظهر ويختفي، يكبر حيناً ويصغر أحياناً، ليغدو تطبيق الديمقراطية يعلو وينخفض بحسب مصلحة كل دولة أو كل منظمة أو مجموعة، حتى أضحت الديمقراطية عبارة عن ستارة تتلطى خلفها قوة تتحكم بمصير ومستقبل الشعوب، من خلال السيطرة على موارد وثروات الأوطان لوضعها بتصرف أنظمة سياسية لا تفقه معنى الديمقراطية التعددية في العالم، ولا تؤمن إلا بمنطق القوة والسيطرة الأحادية على ثروات الأوطان، والسعي لإفقار تلك الأوطان، نحن العرب أول المستهدفين، وذلك ضماناً لاستمرار تخلّفنا، واستكمال مشروع الهيمنة الذي لا يمكن تطبيقه إلا من خلال سلوك درب الحرب والقتل والتشريد والتشتيت المتعمد لكل المجتمعات صاحبة الإرث التاريخي المنبثق من حضارة قديمة قدم التاريخ، إضافة إلى سعي تلك القوى لتزوير التاريخ وإنشاء مجتمعات منكفئة منعزلة جوفاء من الحضارات القديمة القيمة.
لا يمكننا وضع حدث المجزرة التي حصلت في نيوزلندا في خانة العمل الفردي، أو في خانة المختل عقلياً.
إن المجزرة التي نفذها الأسترالي برينتون تارانت في نيوزلندا هي عمل إرهابي مدبّر وبعناية لا يمكن لأي هاوٍ القيام به، لأنها نتاج عمل احترافي متقن جرى تنفيذه عن سابق تصور وتصميم، نابع عن «ثقافة» متراكمة تؤمن بإمكانية استرداد صفحات التاريخ القديم وإعادة كتابته من جديد بدماء الأبرياء من المجتمعات الزاخرة بتنوع الحضارات والثقافات، العابقة بالتاريخ، المتعايشة في ظل مزيج من الأديان الأخرى.
لا ننكر أن مرتكب المجزرة في نيوزلندا هو «مثقف» ودارس للتاريخ الحافل بالانتصارات الإسلامية في بلاد الغرب، الأمر الذي لم يعجب قوى الشر العاملة في أروقة الغرف المظلمة التي تريد إلغاء المبادئ الحقيقية للدين الإسلامي وحرفها عن مفهومها الإلهي، وهذا ما بدا واضحاً من خلال الكتابات التي ظهرت على السلاح المستعمل لتنفيذ المجزرة، ما يسهم باستهداف وتشويه صورة الإسلام من خلال الترويج لإسلام جديد بالمفهوم والممارسة يخدم مصالح قوى الظلام الشريرة.
من تسنّى له مراقبة تغطية وسائل الإعلام الأوروبية والغربية، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يكتشف مستوى اللامبالاة والبرودة والتبرير المتعمد والواضح من خلال متابعة ذيول المجزرة، والسبب أن المعتدي أسترالي الجنسية، ومن اليمين المتطرف، أما الضحايا فهم الآتون من بلاد عرفت بمجتمعها المتنوع المليء بالثقافات والحضارات الغنية بالتاريخ، الأمر الذي لا يتفق مع مجتمع منعزل لا هدف له سوى الانغلاق ورفض الآخر.
وهنا نسأل: هل البرودة والتبرير المتعمدان لارتكاب المجزرة المروعة في نيوزلندا، سيكونان معتمدين لو أن الحدث نفسه نفذه شخص عربي ضد كنيس يهودي والقتلى كانوا من اليهود؟
لقد ثبت أن الطلقات إسرائيلية الصنع، والسلاح الحربي المستعمل إسرائيلي أيضاً، والقنابل التي وجدت بحوزة مرتكب المجزرة هي إسرائيلية، أما الكتابات التي ظهرت على الرشاش فهي دليل بأن مرتكب مجزرة نيوزلندا الأسترالي برينتون تارانت ليس هاوياً أو مختلاً عقلياً، فالمجرم ومَن خلفه أرادوا بجريمتهم إعادة كتابة التاريخ بدماء الأبرياء القادمين من مجتمع غني بالحضارات والثقافات المختلفة، انتقاماً لحضارتهم الغربية الجوفاء. ولأن حضارتهم التي تُختصر بتطبيق مبدأ التعصب والانعزال والتقوقع والعنصرية المقيتة، ترجمت باعتناق عقيدة السطو والقتل ونهب الثروات وتشتيت المجتمعات المناضلة العاشقة للحرية.
باختصار لقد صدق سامويل هانتنغتون صاحب أطروحة «صراع الحضارات» التي جادل فيها بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون متمحورة حول خلاف أيديولوجيات بين الدول القومية، بل بسبب الاختلاف الثقافي والديني بين الحضارات الكبرى في العالم. ومما قاله هانتنغتون: إن صراع ما بعد الحرب الباردة لن يكون صراعاً أيديولوجياً بين شيوعي ورأسمالي، بل إن الصراع القادم هو صراع الحضارات والثقافات والأديان، وسيكون شرساً وعنيفاً.
إذا نظرنا إلى الأحداث الجارية في منطقتنا العربية، إضافة إلى الصراع القائم بين أنظمة عربية عامرة وزاخرة بالحضارات والثقافات المتنوعة، وبين النظام الأميركي الغربي الرافض تقبل الآخر الآخذ في التطرف والانعزال والانغلاق، لاكتشفنا تطابق واقع الحال انطلاقاً من نظرية هانتنغتون.
ومع تصاعد موجة العنصرية والكراهية منذ غزوة نيويورك عام 2001 في 11 سبتمبر، وظهور مبدأ عدم تقبل الآخر، يتبين لنا القصد من غزوة نيويورك، ولوجدنا أن اليمين المتطرف يقف خلف تنفيذها بهدف بلوغنا ما نحن عليه. وأمام هذا الواقع، علينا توقع المزيد من المجازر البشعة ضد الوافدين من العرب والمسلمين الساعين إلى الانخراط في المجتمعات الغربية.
إن موجة العنف والإرهاب التي شهدتها منطقتنا العربية، هي من تأليف وإعداد قوى اليمين المتطرف الانعزالي في الغرب الذي يتغنى بالديمقراطية، وهدفه تفكيك وتشتيت مجتمعنا الغني بالحضارات والثقافات والأديان، خدمة لاستمرار تدفق الحياة في المجتمع اليهودي الصهيوني، تمهيداً لإعلان الدولة اليهودية على أرض فلسطين العربية، ومن المؤلم أن يكون الإرهاب في بلادنا العربية ممولاً من مال النفط العربي الغبي.
ليس مستغرباً حصول مجزرة نيوزلندا بالتزامن مع انعقاد مؤتمر بروكسل لبحث مستقبل السوريين بغياب الدولة السورية المعنية بمستقبل شعبها، حيث إن مجزرة نيوزلندا حملت عنواناً رافضاً لتقبل الحضارات والثقافات الأخرى ومنعها من الانخراط مع المجتمع الغربي الأجوف، فيما انعقاد مؤتمر بروكسل جاء بهدف جمع الأموال ودفع الرشا للدول المستضيفة للنازحين السوريين وذلك لإبقائهم حيث هم لمنع هجرتهم صوب الغرب بهدف ضمان عدم التئام المجتمع السوري الغني بتعدد الحضارات. وبذلك يمكننا القول إن استمرار معاناة النازحين يخدم مصالح القوى الساعية إلى بقاء مجتمعنا مشتتاً ممزقاً متخلفاً عن أي تطور، وهذا الأمر لا يمكننا وضعه إلا في خانة التآمر المفضوح على مجتمعنا العربي، ولا يمكننا وصفه إلا بمجزرة الحضارات!