على مدى الأيام الماضية، كثر الحديث عن "قداس التوبة والغفران" الذي تشهده كنيسة سيّدة التلة في دير القمر، تخليداً لذكرى شهداء الجبل، ويجمع جنباً إلى جنب رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجيّة جبران باسيل، ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط.
ولعلّ أبرز ما قيل، خصوصاً من جانب "عرّاب" اللقاء وزير المهجّرين غسان عطا الله، تمثّل في كون هذا القدّاس، بمثابة "المصالحة الحقيقيّة" المنتظرة، باعتبار أنّ مصالحة الجبل التي أبرمت في العام 2001، بقيت "شكليّة"، كونها لم تقترن فعلياً بـ"التوبة والغفران"، وهو ما منع ترجمتها عملياً على أرض الواقع.
لكنّ ما لم يُقَل بعد، أنّ اللقاء المحصور بـ"التيار" و"الاشتراكي"، بغياب الأحزاب الفاعلة الأخرى على الساحتين المسيحيّة والدرزيّة، قد يتحوّل إلى مادّة خلافيّة جديدة بين "الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، التي ذهب بعض المقرّبين منها إلى حدّ اتهام "التيار" بالسعي إلى مصادرة "المصالحة"، لإضافتها إلى سجلّ "إنجازات العهد"!.
الصفحة طويت!
صحيحٌ أنّ العلاقة بين "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر" لم تعد متشنّجة بقدر ما كانت في مرحلة تأليف الحكومة مثلاً، عندما انتهى رسمياً العمل بموجب "تفاهم معراب" الذي كرّس "مصالحة" لم تصمد طويلاً بينهما، وإن أصرّا على خلاف ذلك. إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ "المناوشات" بين الجانبين لا تتوقف، بل إنّ أياً منهما لا يوفّر فرصة تسنح له لتسجيل النقاط على الآخر، أو ربما للانقضاض عليه بشكلٍ أو بآخر.
وفي هذا السياق، يبدو أنّ "القوات اللبنانية" قرأت رسالة قدّاس "التوبة والغفران" في الجبل بمنحى سلبيّ، ليس لأنّها ترفض "التقارب" بين "التيار" و"الاشتراكي" مثلاً، كما يقول بعض المحسوبين عليها، ولكن لأنّها شعرت بأنّها "مستهدَفة" بشكلٍ أو بآخر من خلالها، خصوصاً أنّ سهام وزير المهجّرين طالتها بصورة غير مباشرة، حين كرّر أكثر من مرّة في تصريحاته بأنّ النواب المسيحيين لم يفعلوا شيئاً لتثبيت مصالحة الجبل، علماً أنّ "القوات" حاضرة منذ العام 2005 في الجبل نيابياً، نتيجة تحالفها مع "الحزب التقدمي الاشتراكي".
أكثر من ذلك، يصرّ هؤلاء على أنّ المصالحة أبرمت في العام 2001، برعاية البطريرك الماروني السابق نصر الله صفير، وحضور القوى الفاعلة على الساحتين المسيحية والدرزيّة، بل أنّها تثبّتت وتعزّزت بشكلٍ نهائيّ وحاسم من خلال "ثورة الأرز" في العام 2005، بعيد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وذلك من خلال التحالف الذي جمع "الحزب التقدمي الاشتراكي" مع قوى مسيحيّة فاعلة، على غرار "القوات" وكذلك حزب "الكتائب اللبنانية".
ولأنّ كلّ محاولات إحياء الاشتباك المسيحيّ الدرزيّ منذ العام 2005 فشلت، وبقي التقارب بين "الاشتراكيين" وقوى مسيحيّة عدّة طاغياً على كلّ الاختلافات، يعتبر المقرّبون من "القوات" أنّ صفحة "حرب الجبل" طويت نهائياً إلى غير رجعة، وبالتالي ليس جائزاً الحديث اليوم عن مصالحة حقيقيّة أو غير حقيقيّة، إلا إذا كان المقصود هو المصالحة بين حزبين معيّنَيْن هما "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"التيار الوطني الحر"، وعندها تكون مصالحة "مباركة"، لكن بحدودٍ مرسومةٍ بوضوح، ولا لبس فيها.
استهداف سياسيّ؟!
بالنسبة إلى "القوات"، فإنّ المصالحة "سياسيّة" وليس أكثر من ذلك، بدليل أنّ "التيار الوطني الحر" نفسه أبدى الانفتاح على "الحزب التقدمي الاشتراكي" ورئيسه وليد جنبلاط في أكثر من مناسبة، من دون أن يتوَّج ذلك بتفاهمٍ أو تحالفٍ، ما يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كان "التيّار" سيتشبّث بموقفه هذا من المصالحة، لو أنّ محاولاته التقارب سياسياً مع جنبلاط حقّقت مبتغاها، علماً أنّ كتلة جنبلاط النيابيّة أسهمت في وصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، وهو ما يثبّت وجهة النظر القائلة بأنّ المصالحة المرتقبة، مضخّمة، وأنّها عبارة عن لقاءٍ بين خصمين، ونقطة على السطر.
ولأنّ "القوات" لم تعلن موقفها هذا بشكلٍ رسميّ وواضح، باعتبار أنّها أصلاً لا تعارض مبدأ "اللقاء"، وإن عارضت بعض "الخلفيّات" المرسومة له، فإنّ "التيار الوطني الحر" لا يتعامل مع مثل هذه "التسريبات" على محمل الجدّ، إلا أنّ المحسوبين عليه يستغربون وجودها من الأساس، لأنهم يعتبرون أنّ "القوات" يجب أن تكون من أول "مباركي" المصالحة، لأنها تعرف أكثر من غيرها، بحكم حضورها في الجبل، أنّ أهداف مصالحة العام 2001 لم تتحقّق عملياً، وخير دليلٍ على ذلك عدم إقفال ملفّ المهجّرين حتى اليوم، بعد مرور 18 عاماً على المصالحة، وبقاء حقيبة المهجرين واحدة من الحقائب الأساسية في الحكومات اللبنانية المتعاقبة، علماً أنّ "التيار" يصرّ على أن يكون وزير المهجّرين الحالي آخر الوزراء في مجاله، وما قدّاس السبت سوى خطوة مفصليّة في هذا المسار.
وانطلاقاً من ذلك، يعتبر "الوطني الحر" أنّ الانتقادات التي تُوجَّه للمصالحة المرتقبة، سواء صدرت عن "القوات" أو غيرها، تندرج في خانة "الاستهداف السياسيّ" لا أكثر ولا أقلّ، وفي سياق "التصويب على العهد" ومحاولة إفراغ "الإنجازات" التي يحقّقها في أكثر من مضمار من مضمونها، في حين أنّ المطلوب هو إبعاد السياسة عن المصالحة، وهو ما يحرص وزير المهجّرين أصلاً على تكراره في مختلف تصريحاته، لأنّ ما سيحصل في القدّاس لن يؤدي إلى "تحالف" بين الحزبين اللذين يختلفان في مقاربة الكثير من القضايا الحسّاسة، وليس هذا أصلاً المبتغى منه، بقدر ما يهدف إلى تكريس التعايش في الجبل، وطيّ صفحة الصراع بشكلٍ نهائيّ، وحاسم هذه المرّة.
ضجّة "مفتعلة"؟!
لن تعارض "القوات" علناً مصالحة الجبل، ولن يفعل ذلك غيرها، لأنّ أيّ لقاء بين خصمين يبقى محطّ ترحيب وتنويه من جميع القوى السياسية، كما أنّ "القوات" نفسها سبق أن خاضت التجربة، حين اعتبرت "تفاهم معراب" بمثابة مصالحة "تاريخية"، مع أنّ أبعاده السياسية كانت وما زالت واضحة وضوح الشمس.
وإذا كان "الامتعاض" على "التضخيم" وليس على "المبدأ"، باعتبار أنّ "مصالحة الجبل" ثابتة وناجزة، ثمّة من يسأل: لماذا إذاً كلّ هذه الضجّة "المفتعلة" حول أمرٍ لا يفترض أن يكون إشكالياً؟ وما الضير في تثبيت المصالحة أصلاً، وإن عُدّت إنجازاً لهذا الفريق أو ذاك؟.
وفي المقابل، هل ينجح "التيار" و"الاشتراكي" في إبعاد تجاذبات السياسة عن "المصالحة"؟ وهل تصمد الأخيرة، أم أنّها تسقط في "الفخّ" عند أول منعطف سياسيّ، بما يكرّس طابعاً سياسياً يصرّ القيّمون عليها، على نكرانه جملةً وتفصيلاً؟!.