أفرغ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في بيروت «حمولته» من الرسائل الشديدة اللهجة، ثم مضى. لكنّ نتائج زيارته، على المستوى اللبناني الداخلي لن تتجاوز، على الأرجح، إطارَ «القنابل الصوتية» التي تترك دويّاً قوياً من دون أن يكون لها أثرٌ عملي.
لعلّ ما فات بومبيو أنّ حلفاء واشنطن أو اصدقاءها المفترَضين، والذين حرّضهم على «حزب الله» علناً، لم يعودوا راغبين او قادرين على الاستجابة للسقوف العالية وللأجندات «المُعلّبة»، بمعزل عن عواطفهم السياسية.
بعض هؤلاء أصبح لا يثق في الولايات المتحدة بعدما «لدغته» التجارب المريرة التي أظهرت أنّ الاميركيين يمكن أن يتخلّوا عن حلفائهم بلا تردد وفي ايّ لحظة إذا اقتضت مصالحهم ذلك، وبعضهم الآخر بات يبني خياراته على قاعدة الواقعية التي دفعته الى ربط النزاع مع «الحزب» والتعايش معه في الحكومة ومجلس النواب تحت سقف تسوية مركّبة، أتت بالعماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية وسعد الحريري الى رئاسة الحكومة.
وعليه، لن تكون نبرة بومبيو المرتفعة في بيروت كافية لاستدراج الجهات الأساسية في فريق ما كان يُعرف بـ 14 آذار الى مواجهة حادة مع «حزب الله» في هذه المرحلة، فلا الحريري مستعدّ للانقلاب على التسوية وضرب الشراكة مع عون و«الحزب» في ظلّ موازين القوى الحالية، ولا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط جاهز لاستعادة دور رأس الحربة الذي كان يؤدّيه في مرحلة ما بعد 2005 حين تولّى قيادة 14 آذار ضد سوريا و«الحزب»، ولا «القوات اللبنانية» مهيّأة لخوض مغامرة منفردة وغير محسوبة.
أما «حزب الله» نفسه، والمعنيُّ الاول بالضغوط الاميركية المتصاعدة، فقد تعاطى بأعصاب باردة مع توتر بومبيو وطروحاته «الملتهبة»، بحيث إنّ أيّ رد فعل فوري أو انفعالي لم يصدر عن القيادة، بل إنّ الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله قرر أن يأخذ كل وقته في حياكة الرد وأن يؤجّل موعده الى غد الثلثاء من خلال اطلالة تلفزيونية.
وعُلم أنّ نصرالله سيشرح موقف «حزب الله» من مجريات زيارة بومبيو ومضامينها، وسيفنّد السياسة الاميركية حيال لبنان والمنطقة، وسيُبين انّ الارهاب الحقيقي يُمثله سلوك الولايات المتحدة التي تواطأت طويلاً مع الجماعات التكفيرية ودعمت ولا تزال الاحتلال الاسرائيلي بكل امتداداته العدوانية، وليس «حزب الله» الذي دافع عن لبنان في مواجهة الارهاب بوجهيه الاسرائيلي والتكفيري.
كذلك سيشيد نصرالله بمواقف المسؤولين اللبنانيين «الشُجاعة» حيال ضغوط بومبيو وتصدّيهم لحملته التحريضية على «الحزب» ولسعيه الى إحداث الفتنة، خصوصاً ما صدر في هذا الاتجاه عن كل من رئيسي الجمهورية ومجلس النواب ووزير الخارجية، مع التنوية ايضاً بسلوك رئيس الحكومة سعد الحريري الحريص على الاستقرار الداخلي.
وسيؤكد نصرالله انّ بومبيو غادر بيروت خالي الوفاض بعدما اصطدم بالثوابت اللبنانية في ما يتعلق برفض التحريض على المقاومة، وبعدم التنازل عن الحدود البحرية والحقوق الوطنية في النفط والغاز، وبالإصرار على ضرورة العودة الآمنة للنازحين السوريين الى وطنهم خلافاً للطرح الاميركي المتمسّك بالعودة الطوعية التي تعني عملياً إبقاءَ هؤلاء النازحين حيث هم حتى إشعار آخر.
وفي انتظار خطاب نصرالله، يعتبر القريبون من «الحزب» انّ صراخ بومبيو في بيروت ليس سوى محاولة للتعويض عن العجز الاميركي في الساحة اللبنانية التي لم تعد واشنطن قادرة على العبث بها أو تطويعها، لافتين الى انّ الوظيفة الاساسية لمهمة بومبيو هي تقديم خدمة انتخابية لبنيامين نتنياهو عبر التماهي مع الاجندة الاسرائيلية والسعي الى تسويقها في لبنان.
اما العقوبات الاميركية على «حزب الله»، فهي تسلك مجراها وفق روزنامة واشنطن وحساباتها، وبالتالي زيارة بومبيو لا يمكن ان تقدم او تؤخر فيها، على ما يؤكد القريبون من «الحزب».
وإذا كان بري، الحليف الاستراتيجي للمقاومة، قد أسمع بومبيو في عين التينة كلاماً من الوزن السياسي الثقيل، فإنه لم يكتفِ بذلك، بل هو طلب من عضوَي كتلة «التنمية والتحرير» النائبين ياسين جابر وعلي بزي مقاطعة العشاء الذي اقامه النائب ميشال معوض في دارته على شرف بومبيو، بعدما دُعيا الى المشاركة فيه، علماً أنهما كانا قد لبّيا قبلاً الدعوة الى عشاء أقيم على شرف مساعد وزير الخارجية ديفيد هيل.
وعُلم أنّ بري استاءَ كثيراً من مضمون البيان الفجّ الذي تلاه بومبيو في وزارة الخارجية، معتبراً إياه «غير مقبول بكل المقاييس والمعايير»، وهو اتخذ على أثره قراراً بالطلب من جابر وبزي مقاطعة اللقاء في منزل معوض، في إشارة واضحة وحازمة الى انّ التحالف مع «حزب الله» هو فوق كل اعتبار وانّ هامش المرونة الذي يملكه بري، كرئيس للمجلس النيابي، ينتهي عندما يتعلق الامر بمصير المقاومة وكرامة لبنان.
وقال جابر لـ«الجمهورية» إنّ مواقف بومبيو في وزارة الخارجية «كانت ثقيلة الوطأة «وما بتقطع»، ولم يكن ممكناً أن نشارك في العشاء على شرفه وكأننا لم نسمع ما أدلى به، فحصلت المقاطعة بعد التشاور مع الرئيس بري».
ويضيف: «في العادة، نحن نحضر مناسبات كهذه لنسمع من الطرف الاميركي ما لديه ولنُسمعه الرأي الآخر، حتى لا يظل أسيرَ رأي واحد، كما فعلنا حين شاركنا في العشاء مع هيل قبل فترة، حيث أبلغت اليه ضرورة أن تخفّف واشنطن ضغطها على لبنان إذا كانت حريصة حقاً على استقراره، وقلت له: انتم تؤكدون دائماً انّ هناك عمودين للاستقرار في لبنان، هما المؤسسة العسكرية والقطاع المصرفي، ولكنّ العمود الثاني بدأ يهتزّ نتيجة العقوبات والضغوط»..
ويكشف جابر أنّ وفداً لبنانياً سيزور واشنطن قريباً للمشاركة في اجتماعات البنك الدولي، يضم اليه كلّاً من النائب ابراهيم كنعان والمستشار الاعلامي لرئيس مجلس النواب علي حمدان، موضحاً انه «سيتم على هامش هذه الزيارة الاجتماع مع لجنة الخارجية في الكونغرس وشخصيات اميركية حتى نشرح موقفنا من الامور التي تهم لبنان».