شهدت مدينتي دير القمر عاصمة لبنان الأولى ، قداسا تكريميا لشهداء ذلك اليوم الأسود من آذار عام 1977 الذي سقط فيه الشهيد كمال جنبلاط ومعه سقط عشرات الشهداء في القرى المسيحية ، وكان القداس الذي دعت إليه وزارة المهجرين برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومباركة غبطة البطيريرك بشارة الراعي وحضور رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجية جبران باسيل ، وزعيم الحزب التقدمي الإشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط ، مناسبة لعنوان إنساني كبير هو التوبة والمغفرة ، وقد أكد كل من باسيل وجنبلاط عزم المسيحيين والدروز على تخطي اللحظات الأليمة من التاريخ والتطلع نحو مستقبل العيش معا ، على قاعدة التسامح والمصالحة ، وكان الوزير باسيل موفقا بإستعارة كلمات مضيئة للمعلم بطرس البستاني الذي نحيي المئوية الثانية لميلاده هذه الأيام ، تبني على تكامل الندم والصفح ثنائية المصالحة .
الأكيد أن وعي القادة السياسيين وصدق تطلعهم للمصالحة يشكل الركيزة الأهم للتقدم في مسار طي صفحات الماضي الأليمة ، لكن الأكيد ايضا ان المعيار للتقدم يبقى في القدرة على إستعادة الناس المعنيين للعيش معا ، والتغلب على التعقيدات التي حالت ولا تزال دون هذا العيش ، ومناقشة هذه التعقيدات بصراحة وشفافية ، لأن النجاح هو بقناعات الناس بشروط العيش وليس بما يظنه القادة كافيا .
الواضح حتى الآن أننا كسياسيين لم ننجح في توفير ما يعتقده الناس شروط العيش المنشود ، والدليل هي نسب تحقق هذا العيش ، قياسا بما كان عليه قبل عقود، والمقصود هنا ليست المصالحات فقط ، بل الشروط الإقتصادية والخدماتية ، ومعها بالتأكيد الشروط السياسية .
لأن المصالحة أثمن من أي شيئ آخر في السياسة ، نقف معها ومع أي شكل من اشكالها ، ولا نقدم عليها شيئا آخر ، لكن التساؤل عن سبب بقاء مفاعيل المصالحات التي تكررت خلال عقود عدة مرات ، عند حدود الخطاب السياسي والعلاقات بين القيادات ، والمناسبات التقليدية والبروتوكولية ، وعدم نفادها إلى عمق العلاقات الإجتماعية بين ابناء الجبل ، هو الذي يقودنا إلى رسم خارطة طريقة لمصالحة تتم لمرة واحدة ولا نحتاج بعدها للتكرار ، وكأن ما كان من قبل لم يكن مصالحة ، وتظن كل مصالحة أنها الأولى .
المصالحة التي نحتاجها ، هي مصالحة الناس مع فكرة المصالحة ، وليس مع الطرف الآخر من الناس كشريك في المصالحة ، والمقصود الحاجة لأن تشعر الناس أنها بحاجة لأن تتصالح ، وأن لاغنى لها في دورة حياتها عن هذا العيش معا ، والواقع أن الناس تأقلمت مع ظروف بديلة للعيش في بيئة الإبتعاد عن العيش معا ، ونشأ جيل لا يعرف هذا العيش ، ويشكل إسترداده لفكرة العيش الواحد تحديا يحتاج لخطط إقتصادية وثقافية وإجتماعية وسياسية .
وبلوغ هذه المصالحة يحتاج مصارحة لم نبلغها بعد ، تنقل كلام الناس في بيوتهم وصالوناتهم إلى الحوار السياسي ، حول الحاجة للتكافؤ في الوظيفة الحكومية والممارسة البلدية ، والشعور بالأمن الإجتماعي والسياسي والندية في التعامل بالحقوق والواجبات .
وبالتوازي تحتاج المصالحة نفسها أن تتحرر من دوامة الإنتقال بين الثنائيات ، فالجبل لا تختصره ثنائية طائفية ، ولا ثنائية سياسية داخل طوائف ، ولا تعيش المصالحة بالإقرار بالتعددية الطائفية من جهة وبالتوازي إنكار التعددية السياسية في كل الطوائف في الجبل .
المصالحة الجامعة والشاملة هي ما نحتاجه وهي مصالحة عامودية وافقية ،مصالحة تجذب كل المكونات في الطوائف ، وتجذب المكونات في كل الطوائف .