كان من المتوقّع أن تحصد زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الأخيرة إلى لبنان، الاهتمام الكبير الذي لقيته، لجهة توقيتها في ظلّ الحروب الإقليميّة الباردة والساخنة، المُعلنة والمستترة، أو لجهة مضمونها والملفّات التي شملتها محادثات الرجل، وعلى رأسها ملفا النازحين وترسيم الحدود.
وينعكس الاهتمام نفسه على تصريحات الرجل من وزارة الخارجية، التي جاءت "مدروسة" لا "عفوية"، والتي رأى فيها البعض خروجاً عن أدبيّات الخطاب الدبلوماسيّ المتعارَف عليها، ولا سيما في مواجهة "حزب الله"، مع أنها لم تحمل جديداً نسبةً إلى المواقف الأميركية المعروفة، خصوصاً في ظلّ إدارة الرئيس دونالد ترامب الحاليّة.
وفي حين قرأ البعض في هذه المواقف "تحريضاً" للبنانيين على بعضهم بعضاً، واستشفّ منها البعض الآخر "إحراجاً" للمسؤولين اللبنانيين، ثمّة من رأى في الزيارة "إفادة" داخليّة، عبّر عنها بوضوح لا لبس فيه، الموقف اللبنانيّ شبه الموحّد، ولو قال بومبيو بعد الزيارة عكس ذلك...
"حزب الله" مرتاح؟!
صحيح أنّ تصريحات رئيس الدبلوماسيّة الأميركيّة لم تكن دبلوماسيّة بأيّ معنى من المعاني، كما ذهب كثيرون إلى القول، إلا أنّها لم تشكّل أيّ "مفاجأة"، كونها أتت منسقة مع المواقف المعروفة للإدارة الأميركية الحالية، والتي يرى كثيرون أنّها ذهبت بعيداً في انحيازها لإسرائيل، لتتفوّق حتى على كلّ الإدارات الأميركية التي سبقتها، وهو ما تجلى بخطوات عدّة، أبرزها نقل السفارة إلى القدس، والحديث عن "سيادة" إسرائيل على الجولان أخيراً.
ومع أنّ مواقف بومبيو اتخذت منحى تصاعدياً في مواجهة "حزب الله"، الذي وصفه بـ"الخطر جداً" وقال إنّه "يتظاهر بدعم الدولة، ويتحدّى الدولة والشعب من خلال جناحه الإرهابي، ويسرق موارد الدولة التي هي ملك شرعي لشعبها الأبي"، وصولاً إلى "تحريض" الشعب اللبناني عليه، من خلال دعوته إلى "الوقوف في وجه إجرام حزب الله وتهديداته"، فإنّ "المفاجأة" قد تكون في أنّ كلّ هذه المواقف لم تثر قلق "حزب الله"، بل إنّها أفادته في مكانٍ ما، وبعثت إليه بعض الراحة.
بالنسبة إلى الحزب، فإنّ المواقف الأميركية ليست جديدة، وإن بدت اليوم أكثر وقعاً، ربطاً بالمستجدات في الإقليم والمنطقة، والحروب الساخنة التي تنخرط الولايات المتحدة في خضمّها، وبالتالي فإنّ شيئاً لم يتغيّر في مقاربتها، هو الذي لطالما وصف أيّ موقف أميركي معارض له بأنّه "وسام شرف على صدره"، وأنّ الثناء الأميركي، لو حصل، هو الذي كان من شأنه أن يبعث القلق إلى نفسه. إلا أنّ "ارتياح" الحزب أتى بالدرجة الأولى نتيجة الموقف اللبناني، الذي رآه "متقدّماً وشجاعاً"، خصوصاً أنّ بومبيو سمع كلاماً موحّداً من جميع من التقاهم عن أنّ الحزب مكوّن لبنانيّ أساسيّ يمثل شريحة شعبية واسعة، وهو ما يكفي ويفي بالغرض أكثر من اللزوم.
تلاقي الخصوم؟!
بطبيعة الحال، شكّل "حزب الله" الطبق الأكثر "دسماً" على طاولة محادثات وزير الخارجية الأميركي في بيروت. عكس ذلك في تصريحاته التي أطلقها من وزارة الخارجية، والتي كان كتبها سلفاً، وقبل وصوله إلى لبنان، ما أوحى لكثيرين أنّه جاء لتردادها، من دون اكتراث حقيقيّ وجدّي بما يمكن أن يسمعه خلال نقاشاته مع المسؤولين اللبنانيين.
إلا أنّ ما قاله المسؤولون اللبنانيون في المقابل، أو ما لم يقولوه، شكّل برأي كثيرين نقطة "حصانة" للساحة اللبنانيّة، على الرغم من أنّ بومبيو حرص على القول بعد زيارته، إنّه لمس من جميع من التقاهم الرغبة بمواجهة "الهيمنة الإيرانية على لبنان"، في إشارة واضحة إلى "حزب الله". وفي هذا السياق، يعتبر كثيرون أنّ بومبيو نجح، من حيث يدري أو لا يدري، بجمع اللبنانيين "المتخاصمين" على كلمة واحدة، في لحظةٍ فارقةٍ قد تكون نادرة، في عزّ الخلافات التي تبدو مستفحلة على أكثر من صعيد.
ولعلّ "التوافق" بين رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل من جهة، ورئيس مجلس النواب نبيه بري من جهة ثانية، والذي ظهر جلياً من خلال مواقف المسؤولين الثلاثة التي بدت موحّدة إلى حدّ كبير، شكّل خير دليل على هذا "التلاقي"، حتى أنّ القواعد الشعبيّة لـ"التيار الوطني الحر" و"حركة أمل"، التي لا توفّر فرصة للانقضاض على بعضها بعضاً، غرّدت في سربٍ واحدٍ، لدرجة "ثناء" البعض في "أمل" على الوزير باسيل، والبعض في "الوطني الحر" على برّي، في مفارقةٍ يجدر الوقوف عندها. وفي السياق نفسه، أتت مواقف رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، المشيدة بمواقف عون وباسيل، على رغم "القطيعة" الحاصلة بين الجانبين، بل "الحرب الشعواء" إذا جاز التعبير، وهو ما علّق عليه البعض بالقول إنّ الولايات المتحدة قد تكون فتحت "نافذة" في "جدار" العلاقة بين الحليفين القديمين، من حيث لا تدري طبعاً.
أكثر من ذلك، يتوقّف كثيرون عند "الصمت المعبّر" حتى لخصوم "حزب الله"، أو من يشاطرون واشنطن الرأي في مكانٍ ما، إلا أنّ أياً منهم لم يذهب إلى تبنّي الخطاب الأميركي في مواجهة "حزب الله"، بالنظر إلى التركيبة اللبنانية الهشّة. ولعلّ أكثر ما كان لافتاً في هذا الإطار هو صمت رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي اقتصر البيان الرسميّ حول لقائه بومبيو إلى الإشارة إلى أنّه تناول التطورات، وأنّ الحريري استبقاه إلى مائدة الغداء، من دون أيّ غوص في التفاصيل، وهو ما اعتبر البعض أنه يعكس "إحراجاً" شعر به الحريري، الذي يشكّل "حزب الله" جزءاً أساسياً من حكومته، ولو كان يُعِدّه خصماً.
"نأي بالنفس"!
لا شكّ أنّ زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى لبنان، حملت "إنذاراً" إلى مختلف القيادات السياسيّة على أكثر من صعيد، بوجوب تغيير طريقة التعاطي مع "حزب الله"، واعتباره "جسماً خطراً"، وهو ما اقترن بـ"ضغوط جمّة" لا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها.
وفي المقابل، لا شكّ أيضاً بأنّ ملفّاتٍ أخرى طرحها الرجل في لبنان، قد تكون هي الأساس من الزيارة، بعيداً عن الموقف المعروف من "حزب الله"، ولا سيما لجهة ترسيم الحدود البرية والبحرية، انطلاقاً من الرغبات الإسرائيليّة المعروفة في هذا الإطار، بالدرجة الأولى.
ولكنّ الأكيد أنّ لبنان الذي ابتكر نظريّة "النأي بالنفس" تجاه صراعات المنطقة، بات اليوم ميّالاً إلى اعتمادها تجاه نفسه أولاً وأخيراً، لأنّه يدرك أكثر من غيره، تبعات انخراطه في أيّ حربٍ إقليميّة، بالنظر إلى تركيبته "الحسّاسة"، القابلة للانهيار عند أيّ منعطف!.