في الشكل، نجحت الوساطة المصريّة التي قام بها وفد أمني إستخباري في منع إنزلاق التراشق الصاروخي الذي حصل في غزّة خلال الساعات الماضية، إلى مُواجهة عسكريّة شاملة بين الجيش الإسرائيلي ومُقاتلي حركة "حماس" الفلسطينيّة. لكن في المضمون، توجد أسباب أخرى، أكثر عُمقًا، وهي:
بالنسبة إلى الجانب الإسرائيلي، إنّ رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو يُريد تمرير مرحلة الإنتخابات التشريعيّة بأقلّ ضرر مُمكن، لأنّ من شأن الدُخول في أيّ معركة واسعة مع الفلسطينيّين عشيّة الإنتخابات التي يُفترض أن تُنظّم في التاسع من نيسان المقبل، أن يُعرّض فرص فوزه شخصيًا، وحزبه من خلفه، لمخاطر جدّية وكبيرة. وبالتالي فهو غير قادر على إعطاء قُوّاته أمرًا بالهُجوم بريًا على غزّة، بسبب الكلفة البشريّة الضخمة المُنتظرة لهكذا عمليّة، من دون توفّر أي ضمانات بتحقيق إنجازات عسكريّة ميدانيّة كبيرة، ما سيُظهره بموقع القائد الفاشل بأقلّ تقدير. كما أنّ نتانياهو لا يستطيع الدُخول حاليًا في معركة شاملة حتى من دون أي هُجوم برّي، لأنّ قيام إسرائيل بشنّ غارات مُتواصلة على غزّة، يعني حُكمًا قيام حركة "حماس" وباقي الفصائل الفلسطينيّة، بالردّ بقصف صاروخي واسع بإتجاه الأراضي الإسرائيليّة، ما سيُؤدّي إلى نقمة واسعة في صُفوف المدنيّين الإسرائيليّين الذين يُشكّلون في نهاية المطاف أعداد الناخبين الذين يحرص نتانياهو على كسب أصواتهم في الإنتخابات المُرتقبة.
بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني، إنّ حماس التي تُعاني من خناق إقتصادي ومالي مُحكم، لا تُريد زيادة الأمور الحياتيّة والمعيشيّة في غزّة تدهورًا، مع التذكير أنّ تظاهرات واسعة كانت عمّت مناطق سيطرة "الحركة الإسلاميّة" في قطاع غزّة خلال الشهر الحالي، تحت عنوان "بدنا نعيش"، وذلك رفضًا لسياسات "حماس" على أكثر من صعيد، ومُطالبة بحقّ العيش الكريم وبفرص العمل، بعيدًا عن الحروب والمعارك وسياسات التحدّي التي لم تُسفر سوى عن مزيد من المشاكل. وعلى الرغم من أنّ "حماس" إتهمت أجهزة إستخبارات مُختلفة بافتعال هذه الإحتجاجات، وبإستغلالها لتعميق إنقسام الساحة الفلسطينيّة، ولحرف القضيّة الفلسطينيّة عن أهدافها، فإنّ الواقع المَعيشي في غزّة لا يحتاج لأجهزة إستخبارات لتسليط الضوء عليه، حيث أنّ حال الفقر والعوز تضرب أغلبيّة السُكّان، وأرقام البطالة خياليّة، وعجز سُلطات الأمر الواقع بقيادة حماس عن تلبية أبسط حُقوق الناس معروفة، بسبب الحصار الإقتصادي والمالي الخانق الذي تفرضه إسرائيل عليها بغطاء دَولي وحتى عربيّ.
بالنسبة إلى الجانب الأميركي، فهو بدوره لا يُريد أي معارك كبيرة في المرحلة الحالية، لأنّ تحضيرات الإدارة الأميركيّة لفرض تسوية شاملة بين إسرائيل والفلسطينيّين، والتي جرى إطلاق تسمية "صفقة القرن" عليها، تسير بشكل مُتعثّر، وهي تُواجه مشاكل عدّة، بحيث أنّ من شأن إضافة المزيد من المشاكل، أن يُعقّد الأمور أكثر، وأن يجعل إحتمال تمرير هذه الصفقة "مُستحيلاً". وليس بسرّ أنّ الإدارة الأميركيّة ترغب بتمرير الإستحقاق الإنتخابي الإسرائيلي بهُدوء، وهي تدعم نتنياهو بشكل غير مُعلن. كما أنّ هذه الإدارة التي تعمل حاليًا على تشديد الخناق على إيران وعلى القوى والميليشيات المُسلّحة التي تعمل تحت سقفها، لا تريد منح "حماس" فرصة جديدة لتعود بالكامل إلى الحُضن الإيراني لتنفيذ سياسات طهران الأمنيّة، في مُقابل دعم طهران للحركة بالمال والسلاح.
لكن وعلى الرغم من أنّ أحدًا من الأطراف الأساسيّة المَعنيّة، لا يُريد الدُخول في معركة واسعة حاليًا، إلا أنّ أكثر من طرف يسعى لتوتير الأوضاع أمنيًا بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، لأهداف وأجندات مُختلفة. وبالتالي، بحسب الخُبراء المُتابعين لشؤون الشرق الأوسط، وللصراع الفلسطييني–الإسرائيلي، إنّ عمليّات إطلاق الصواريخ المُتفرّقة من غزّة، مُرشّحة لأن تتصاعد في المرحلة المقبلة، بعيدًا عن رغبة "حماس"، وذلك لإستدراج إسرائيل إلى عمليّات ردّ واسعة من شأنها أن تزيد التوتّر في المنطقة. وفي هذا السياق، ليس بسرّ أنّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعتراف رسميًا بضمّ إسرائيل للجولان السوري المُحتلّ، لن يمرّ من دون ردّ من جانب محور "المُقاومة والمُمانعة"، ومحاولات واشنطن تضييق الخناق الإقتصادي والمالي أكثر فأكثر على إيران و"حزب الله" لن تمرّ بدورها من دون اللجوء إلى تكتيكات مُختلفة لمُواجهتها، لا تُسقط من خياراتها إحتمال اللجوء إلى الخيار الأمنيّ–ولوّ بشكل غير مُباشر وعبر جبهات غير مُنتظرة.
في الخُلاصة، صحيح أنّ قُرب موعد الإنتخابات الإسرائيليّة من جهة، والواقع المعيشي المُزري للفلسطينيّين من جهة أخرى، لجما الحرب الواسعة في غزّة هذه المرّة، لكنّ الأصحّ أنّ حال الغليان التي تعيشها المنطقة حاليًا، على أكثر من خط وبسبب أكثر من ملفّ، قد تُحوّل أيّ تراشق محدود للصواريخ بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، إلى مُواجهة مَفتوحة على مصراعيها في المنطقة، في أي وقت.