يُروى أنه في الحرب العالمية الثانية، في أربعينيات القرن الماضي، كانت مئات الطائرات الألمانية وعلى مدى أشهر متواصلة تفرش المدن البريطانية بعشرات الآلاف من أطنان القنابل. وكان للندن النصيب الأكبر منها. البعض قابل تشرشل وقال له: لقد تخّربت البلد، فسألهم: ما وضع القضاء والتعليم؟ فقالوا له: ما زال القضاء والتعليم بخير فقال لهم: إذا البلد بخير فلا تخافوا.
أوردتُ هذه الرواية التاريخية بعدما بدأت تردني تساؤلات من أصدقاء وقراء عن مآل الملفات المفتوحة في لبنان بعد المخاوف من اندلاع حرب أو اضطرابات بسبب العدوان الإسرائيلي المتكرر في غزة واحتمال تداعياتها على لبنان. قلت لمَن سألني:
بصرف النظر عن الحروب وعن التوترات والاضطرابات والقلاقل، فإن القانون يجب ان يبقى سائدًا وسائرًا، الملفات يجب ان تبقى مفتوحة، المعالجات يجب ان تبقى قائمة، ولو كان الأمر عكس ذلك لكان يجب على الحياة أن تتوقف، ليس منذ اليوم بل منذ 1947، تاريخ القرار الجائر بتقسيم فلسطين، ثم منذ العام 1948 تاريخ إعلان دولة إسرائيل، ثم منذ حزيران من العام 1967، تاريخ النكبة، وما تلاها من حروب وانكسارات... لو كان كل ما سبق من شأنه أن يوقِف البلد، لكان البلد ما زال متوقفًا منذ ثلاثة ارباع القرن... ولو كانت المجاعة أثناء الحرب العالمية الأولى قد أوقفت جبل لبنان وسائر المناطق، لكان لبنان ما زال "في مجاعة" منذ قرن... لكن لا، فالشعوب تقف من كبوتها:
الم تقف اليابان على رجليها وتتعافَ بعد القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي؟
ألم تخرج المانيا من كبوتها بعد الحرب العالمية الثانية؟
إن الذي يقف مكانه، يحكم على نفسه بنفسه إما بالتجمد في المكان الواحد، فيما غيره يتقدَّم، ما يعني انه يصبح متأخرًا.
لقد أوقفتنا الحروب في لبنان على مدى خمسة عشر عامًا، من العام 1975 إلى العام 1990. لم تتوقف الحرب بالكامل ولم يعم السلام بالكامل، لكن البلد أقلع وانطلقت مسيرة الإعمار.
اليوم، وبعد تسعة وعشرين عامًا على "انتهاء" الحرب، لا بد من الإستمرار في معالجة الملفات لأنه لم يعد بالمقدور الإنتظار...
صحيح ان بعض الملفات سيتم إرجاؤها موقتًا إلى حين معاودة رئيس الحكومة سعد الحريري نشاطه بعد إبلاله، والحمد لله، من عملية "القسطرة" التي خضع لها وتكللت بالنجاح، ومن ابرزها ملف خطة الكهرباء والذي أعطى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أسبوعًا للجنة الوزارية لتضع تقريرها بشأنه.
إلى ملف الكهرباء، هناك الكثير من الملفات التي تحتاج الى معالجة بسرعة قياسية ولا سيما منها ملف المقالع والكسارات... وصدقًا لا بد من التنويه بجرأة وزير البيئة فادي جريصاتي الذي اعلن انه سيكون في مواجهة مع أصحاب المقالع والكسارات خصوصًا ان معظمها من دون ترخيص.
إن البلد يجب الا توقفه، لا ظروف استثنائية ولا أحداث عابرة، مهما كانت مهمة، لنتذكَّر دائمًا ولنضع نصب اعيننا أن الدين العام لامَس المئة مليار دولار، و"عدَّاد" الفوائد لا يتوقف، فهل تتوقف المعالجة؟
إذا كان عداد الفوائد لا يتوقف، فمن الجريمة توقيف المعالجات التي تجمد ارتفاع الدين ثم تبدأ بتخفيفه.