يُقال أن زيارة الرئيس ميشال عون الى روسيا احتاجت ثلاث سنوات لكي تتحقق، ما طرح علامات استفهام كثيرة حول سبب تهرّب الروس من إعطاء الموعد. حاولت شخصيات عديدة في السنوات الماضية ترتيب زيارة رئاسيّة الى موسكو، ولم تنجح، الى أن تمكّن ممثل بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس لدى بطريركية موسكو وعموم روسيا المطران نيفون صيقلي من لعب الدور البارز للوصول الى هذه النتيجة بعد لقاءات واجتماعات مطوّلة مع الكنيسة الروسيّة.
كل هذا يصبح خلفنا بعد حصول الزيارة وما حملته من تطورات ستؤثّر على مستقبل لبنان السياسي. نعم قد لا يكون الرئيس بوتين تعامل مع عون كما يتعامل مع "صديقه" الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، علما أن الاخير عندما يزور روسيا تُكسر البروتوكولات لأجله، فيتنزه على الكورنيش البحري برفقة نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ويُدعى لعشاء عائلي في منزل رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف، ولكن لا يهمّ الشكل بقدر المضمون، الا انه لا شيء يمنع من التوقف قليلا عند الشكل.
تكشف مصادر متابعة أن روسيا تتعاطى بروتوكوليا على مبدأ "التعامل بالمثل"، وعليه لا يقوم الرئيس بوتين بالضرورة باستقبال الرؤساء على أرض المطار، وعادة ما يقوم وزير الخارجية باستقبال الضيوف أو المسؤول في الخارجيّة عن ملفّ البلد الضيف، مشيرة الى أن استقبال الرئيس عون من قبل ممثل الرئيس الروسي في الشرق الأوسط ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، ومدير مراسم الدولة في وزارة الخارجية ايغير باغداشوف فيكتوروفيتش، والسفير الروسي في لبنان الكسندر زاسبيكين، هو استقبال طبيعي بروتوكولي لا يحتمل التأويلات التي صدرت في لبنان.
بالنسبة الى المضمون، فالزيارة لا تُقيّم قبل معرفة الأهداف والنتائج، فالرئيس عون بحسب المصادر زار روسيا لهدفين أساسيين، الاول يتعلق بالنازحين السوريين، والثاني يتعلّق بعلاقة لبنان بروسيا. في الهدف الاول، ترى المصادر أن الرئيس عون أكد في روسيا، لا موافقته المطلقة فحسب على المبادرة الروسيّة لحل أزمة النازحين السوريين في لبنان، بل طلبه المساعدة المباشرة من بوتين في هذا الملف، وذلك ردًّا على مواقف الخارجيّة الأميركيّة التي صدرت في بيروت خلال زيارة رئيس الدبلوماسيّة الأميركيّة مايك بومبيو، مشيرة الى أن الرئيس عون تموضع في مكان جديد كليًّا، الى جانب روسيا.
وتضيف المصادر: "من المعروف أن ملف النازحين يشكل مادّة خلافية كبيرة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركيّة، وما اتهام عون للأخيرة بنيّتها الاستفادة من النازحين كرهينة لتحقيق أهدافها، الا رسالة واضحة للإدارة الأميركيّة بأنّ تحفظاتها حول المبادرة الروسيّة لا تعني لبنان، ولن تنجح في تغيير الموقف اللبناني المطالب بعودة النازحين الى سوريا".
وفي سياق الحديث عن أهداف الزيارة الاخرى، تكشف المصادر أن الرئيس عون قد لوّح سابقا في لقاءات عديدة بنيّته فتح السوق اللبناني أمام السلاح الروسي، اذ لم يعد مقبولا الارتهان لدول معيّنة في تسليح الجيش وتمكّن هذه الدول من ابتزاز لبنان بأيّ صفقة عسكريّة يريد عقدها مع أيّ دولة. وتضيف المصادر: "لم يعد مقبولا بالنسبة لعون أن يرفض لبنان الهبات العسكريّة الروسيّة بحجّة الرفض الأميركي"، مشيرة الى أن هذا الملفّ فُتح في روسيا ويبدي الروس اهتماما بالغًا به، بدأ قبل الانتخابات النيابيّة وسيستمرّ.
اما اقتصاديًّا، فيبدو هدف الزيارة واضحا، خصوصا أن الروس يشاركون في عمليّة التنقيب عن النفط والغاز في المياه اللبنانيّة، الامر الذي لم تفعله الولايات المتحدة الاميركيّة بقرار منها، وهذا ما يجعل روسيا شريكة اقتصاديّة مستقبليّة للبنان.
يعلم الجانب اللبناني أنّ روسيا دخلت منطقة الشرق الاوسط بقوّة ولن تخرج منها قريبا، ومن يملك القوة والتأثير في سوريا سيملكه في المنطقة كلّها ولبنان ضمنها، لذلك لم يعد مقبولا "التسكير" على الروس لصالح الاميركيين، ومن هنا بدأ عون بزحزحة التموضع القديم للبنان، والانفتاح أكثر على الجانب الروسي في كل المجالات.
إنّ كل ما سبق، بانتظار النتائج، يعدّ نجاحا باهرا اذا ما تحقق، خصوصا الاتّفاق حول آليّة جديدة للعمل بملفّ النازحين، وانفتاح لبنان عسكريًّا على المساعدات العسكريّة، والشقّ النفطي، ولكن لا ينبغي الغياب عن تفاصيل ترافقت مع الزيارة، أبرزها ما تكشفه المصادر عن ان الرئيس عون حاول التسويق لوزير الخارجيّة جبران باسيل للرئاسة، او على الأقل "إبرازه" أمام القيّادة الروسية القويّة في الشرق الاوسط.
بعيدا عن ضوضاء السياسة كانت زيارة عون الى روسيا "واعدة" على أن يصدر الحكم بشأن نجاحها بعد فترة، فهل يدخل لبنان مرحلة سياسية جديدة؟!.