ليس سراً ان الصاع الاميركي-الروسي في العالم اخذ منحى جدياً منذ ان وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بلاده على خط استعادة دور الاتحاد السوفياتي وانهاء الاحادية الاميركية في السيطرة على العالم. وبينما كانت الامور اكثر حدّية بين البلدين خلال عهد الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما، تبدو اليوم اكثر مرونة، على عكس ما توحي به المواقف الرسمية للرئيسين وللوزراء المعنيين، فالعلاقة بين بوتين والرئيس الاميركي الحالي دونالد ترامب لم تكن يوماً مهزوزة او مهددة، وما قاله ترامب في اكثر من مناسبة عن نظيره الروسي، كافٍ لافهام الجميع ان العلاقة متينة ولن تهتز مهما كانت الظروف.
وفي حين يضغط الرأي العام الاميركي على ترامب للابتعاد عن بوتين، يعمد الرئيس الاميركي الى "التحايل" عبر اطلاق مواقف علنيّة "تدغدغ" مشاعر الروس دون ان تجرحها، فيما يرد هؤلاء بمواقف مماثلة وقد تكون في بعض الاحيان اكثر حدة. وقد اتت قضية التحقيقات التي اجراها روبرت مولر حول براءة ترامب من التدخلات الروسية في الانتخابات الاميركية، لتعني زخماً جديداً للرئيس الاميركي كي يستمر في استراتيجيته المتّبعة في شأن العلاقة مع روسيا عموماً ومع الرئيس الروسي تحديداً.
هذه الاستراتيجية تظهر بوضوح من خلال تمثيليّة "لعبة القط والفأر" التي يقوم بها الطرفان، وآخرها مطالبة ترامب بانسحاب روسيا من فنزويلا، مقابل ردّ بوتين بالمطالبة بانسحاب اميركا من سوريا. ومن يتابع التطورات في تلك المناطق الجغرافيّة، يدرك ان اي طلب منهما غير واقعي ولا يمت الى المنطق بصلة، ومن الصعب جداً (ان لم يكن مستحيلاً) تنفيذه. ويعلم الاميركيون تمام العلم ان بقاء الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في منصبه يعود الى الدعم الروسي له، وان موسكو رغبت في "استنساخ" تجربة سوريا في فنزويلا، مع فارق اساسي وهو غياب العمليّات العسكريّة، والاكتفاء بـ"عرض عضلات" واثبات وجود.
في المقابل، يعرف الروس حق المعرفة ان مغادرة الاميركيين لسوريا هو مجرد كلام في الهواء، وان بقاءهم هناك منسّق بشكل جدّي مع روسيا، ولعلّ غياب اي حادثة او احتكاك بين جنود البلدين على الارض السورية، يعكس تماماً هذا الواقع، لا بل لم ينقطع التنسيق بين الجانبين في المنحى العسكري لوجودهما في سوريا رغم "الخلافات العلنية" التي كانت تظهر، وذلك باعتراف الطرفين.
فما هو المغزى من هذين الموقفين الصادرين عن البلدين؟ لا يمكن تحديد اعطاء دقيق على هذا السؤال، انما من المنصف القول ان ما يقال لا يعدو كونه سباق على كسب الرأي العام في كل من اميركا وروسيا، لان الشعبين في كلا البلدين، تواق الى اثبات تفوّقه على الآخر، وكأن هناك "حرب باردة شعبية" بينهما، اذ ان الاميركيين لم يتقبّلوا بعد "الفورة" الروسية الاخيرة، فيما لا يزال الروس يعانون من "عقدة السيطرة الاميركية" عليهم منذ ايام البريسترويكا وانهيار الاتحاد السوفياتي الذي اعادهم سنوات كثيرة الى الوراء قبل ان يعيدهم بوتين الى الدور الذي كانوا يلعبونه.
وعليه، من غير المرجّح ان نشهد تغييرات دراماتيكية على الساحة الميدانية في كل من فنزويلا وسوريا في ما خص التواجد الاميركي والروسي فيهما، فيما تبقى امكانية الوصول الى تفاهم مع الروس حول قبولهم في التخلي عن مادورو وعن جزء من نفوذهم في فنزويلا مقابل مطالب معيّنة قد تراها موسكو اكثر افادة لها من استمرار دعمها للرئيس الفنزويلي، قد لا تنحصر فقط في منطقة جغرافية محددة، بل في مناطق عدة من العالم.