جاء إحياء يوم الأرض في 30 آذار هذا العام ليعيد وضع القضية الفلسطينية في واجهة الأحداث، عربياً وإسلامياً ودولياً، وليوجه من خلاله، شعبنا الفلسطيني، ضربة قاضية لصفقة القرن، ولكلّ المخططات الهادفة الى التآمر على حقوقه الوطنية، على انّ هذه النتائج الهامة التي جسّدها الاحتفال بيوم الأرض عبر تصعيد الانتفاضة الشعبية ضدّ الاحتلال، من خلال التحركات والمسيرات والمواجهات مع الاحتلال في قطاع غزة والأراضي المحتلة عامي 48 و67، جاءت متزامنة مع إنجازات جديدة حققتها المقاومة المسلحة في المواجهة الأخيرة، عشية ذكرى يوم الأرض، مع كيان الاحتلال الصهيوني.. تمثلت هذه الإنجازات في نجاح المقاومة في فرض قواعد جديدة للاشتباك مع جيش الاحتلال، وتعزيز قدرتها الردعية في مواجهته.. وقد اعترف مسؤولون سياسيون وأمنيون وقادة أحزاب صهاينة بخسارة «إسرائيل» لقوتها الردعية وتزايد قوة المقاومة الفلسطينية، وهو ما اعتبر اعترافاً نادراً غير مسبوق، في أعقاب هجوم للمقاومة بقصف شمال تل أبيب بصاروخ متعدّد الرؤوس أدّى إلى تدمير منزلين وإصابة سبعة مستوطنين بجراح، هذا الهجوم الذي وقع كالصاعقة على رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو الذي كان في الولايات المتحدة الأميركية… واللافت أنّ هذا الهجوم الجريء للمقاومة تزامن مع إقدام القوات الخاصة الصهيونية على اقتحام بعض السجون في فلسطين المحتلة وارتكاب اعتداءات وحشية ضدّ الأسرى الفلسطينيين، مما جعل من قصف تل أبيب يندرج في سياق قرار اتخذ من قبل قيادة المقاومة الفلسطينية في غزة يقضي بعدم السماح باستفراد الأسرى وضرورة الردّ على الاعتداءات التي استهدفتهم، وفرض قواعد جديدة للاشتباك مع العدو تقوم على حماية الأسرى من بطش وإرهاب الاحتلال، ورسم معادلة ردعية تشمل مدينة تل أبيب، قلب الكيان الصهيوني، إلى جانب مدن ومستوطنات الاحتلال في جنوب فلسطين المحتلة.. وهذا تطوّر مهمّ في أداء المقاومة ويعكس جرأة وشجاعة، وفي نفس الوقت تعريض عمق الكيان الصهيوني ومركز تجمّعه الأساسي السكاني ومؤسّساته الحكومية وعصب حركته الاقتصادية الى التهديد الأمني في أيّ لحظة وأيّ وقت يقدم فيه العدو على تنفيذ عدوان على قطاع غزة أو ضدّ الأسرى أو أيّ عدوان وحشي يستهدف الشعب الفلسطيني.. كما أنّ قيادة المقاومة نجحت أيضاً في تحديد هدفها من الهجوم الصاروخي وتحذير العدو من تجاوز الخطوط الحمر في ردّه على قصف تل أبيب، مما شكل رسالة حازمة من أنّ تجاوز هذه الخطوط سوف يستدعي رداً قوياً من المقاومة يطال مركز العمق الصهيوني في غوش دان الذي يضمّ تل أبيب وغيرها من مناطق الثقل الصهيوني الأساسية، وكذلك عدم السماح للعدو بأن يحدّد هو طريقة نهاية هذه الجولة من المواجهة، حيث ردّت المقاومة على القصف «الإسرائيلي»، لبعض مواقع المقاومة والمؤسسات والمناطق السكنية القريبة منها، بقصف مستوطنات غلاف غزة، أيّ انّ الردّ كان بمستوى مواز للاعتداءات «الإسرائيلية»… واستطرادا ربط أيّ اتفاق للتهدئة بفك الحصار عن القطاع، وهو ما أشارت إليه صحيفة «هآرتس» الصهيونية.
وعلى الرغم من أنّ نتنياهو قد اضطر إلى اختصار زيارته إلى واشنطن والعودة سريعاً إلى فلسطين المحتلة، بعد اجتماعه مع الرئيس دونالد ترامب، الذي وقع وثيقة تعترف بالسيادة «الإسرائيلية» على الجولان السوري المحتلّ، إلا أنه رضخ لقواعد الاشتباك الجديدة التي فرضتها المقاومة، متجنّباً الذهاب إلى عدوان واسع أو شنّ حرب شاملة ضدّ القطاع، خوفاً من أن تقود نتائجها إلى هزيمة جديدة يمنى بها جيش الاحتلال تكرّس عدم قدرته على تحقيق النصر وبالتالي وضع نتنياهو في موقف صعب يفاقم من مأزقه وينهي مفعول قرار ترامب تأييد ضمّ الجولان، وكان هناك شبه إجماع لدى المعلقين والمحليين الصهاينة بأنّ البديل الآخر للانضباط بقواعد الاشتباك التي فرضتها المقاومة، سيكون العودة إلى احتلال قطاع غزة، والذي سيكون دونه معارك شرسة ستعرّض جيش الاحتلال إلى خسائر جسيمة في المعدات والأرواح، وقد تستمرّ الحرب فترة طويلة لما تملكه المقاومة من قدرات على القتال، مع احتمال تكرار مشاهد الفشل والهزيمة التي تعرّض لها كيان الاحتلال في جنوب لبنان عام 2006، في بنت جبيل وعيتا الشعب ووادي الحجير ومارون الراس، وغيرها من المناطق الجنوبية، التي واجه فيها جيش العدو مقاومة شرسة وتكبّد فيها خسائر كبيرة وعجز عن السيطرة عليها، واضطر في نهاية المطاف إلى الانسحاب مهزوماً من دون تحقيق أهداف حربه..
هذه النتيجة التي أسفرت عنها جولة المواجهة الأخيرة، إلى جانب نتائج تصاعد الانتفاضة الشعبية في يوم الأرض، أدّت إلى تسعير التناقضات والصراعات داخل الكيان الصهيوني والتي تجسّدت في ما يلي:
اولاً: إقرار بفقدان «إسرائيل» لقوتها الردعية من قبل وزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان على إثر وقف إطلاق النار في غزة، حيث كتب على توتير «هذا ليس وقفاً لإطلاق النار بل انهيار كامل للردع الإسرائيلي، ومسّ بأمن المستوطنين وفقدان تامّ للشعور بالأمن»… وقد أيّد ليبرمان في هذه الخلاصة كلّ من رئيس حزب «العمل» أفي غباي، ورئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، وحزب اليمين الجديد..
ثانياً: توجيه انتقادات قاسية للجيش «الإسرائيلي» لعجزه في جولة القتال الأخيرة عن إصابة أيّ من الأهداف التي وضعها، وفي هذا السياق قال مسؤول معهد أبحاث الأمن القومي اللواء احتياط عاموس يدلين أنّ الجيش يكتفي في الفترة الأخيرة بالردّ على نيران حماس مؤكداً «لقد خسر جيشنا إبداعه وقدرته على المفاجأة والخداع».. وأضاف يدلين انّ «إسرائيل تريد الانتصار، لكنها تعلم ما هو ثمن هذا الانتصار»، وتابع: «إذا كان دليل انتصارنا هو إعادة السيطرة على مليوني فلسطيني وإرسال الكثير من الكتائب والألوية من أجل السيطرة على مخيمات اللاجئين، لا نريد ذلك».. في حين اعتبر موقع القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي أنّ الصاروخ الذي أطلق فجر الإثنين من جنوب غزة سيكون ذكرى مؤلمة لدى المستوطنين خصوصاً لكونه لم يواجه عبر غطاء من القبة الحديدية، واعترفت مصادر في المؤسسة الأمنية الصهيونية أنّ الصاروخ الذي أصاب منزلاً في شمال تل أبيب لم يتمّ اعتراضه من قبل منظومة الدفاع الجوي لأنه لم يكن هناك إمكانية للإعتراض… هذا الاعتراف يؤكد فشل منظومة القبة الحديدية وعدم قدرتها على اعتراض وإسقاط صواريخ المقاومة..
ثالثاً: سيادة شعور عام بالقلق لدى المستوطنين الصهاينة يصل حدّ اليقين بعدم الإحساس بالأمان، على الرغم من قرار الجيش «الإسراىيلي» بالعودة إلى الروتين فإنّ بعض المستوطنين قرّروا إبقاء أولادهم في البيت خشية تجدّد إطلاق الصواريخ… ونقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن إحدى المستوطنات في سديروت قولها: «إننا نعيش في حالة عدم يقين، ولا نعلم إذا كان هناك تصعيد أو لا… مرة يتحدثون عن وقف إطلاق النار ومرة أخرى عن صافرات إنذار… نحن نعيش في وضع مربك كثيراً لا يخدم أبداً الشعور بالأمن»..
رابعاً: أثبت الشعب الفلسطيني من خلال تمسكه بأرضه والعودة إليها فشل رهان الاحتلال الصهيوني على إخضاعه وفرض الأمر الواقع عليه، وتبيّن أنّ هذا الشعب، جيلاً بعد جيل، يزداد إصراراً على مواصلة نضاله وكفاحه الوطني لتحرير أرضه والعودة اليها، وانّ شعباً يملك مثل هذا الإصرار والإرادة والتصميم والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن حقوقه من النهر إلى البحر، لا يمكن قهره وفرض الاستسلام عليه وأنه سيحرّر أرضه وانْ طال زمن الاحتلال، وهذا هو درس الجزائر لا يزال حياً ويشكل نموذجاً على تحرير الأرض من المستعمر الفرنسي الاستيطاني، بعد 130 سنة على احتلاله للجزائر.. وطبعاً هو درس لكلّ الذين يحاولون بث ثقافة الإحباط واليأس والاستسلام، بأنّ ثقافتهم لم تنجح في جعل شعب فلسطين يستكين أو يتردّد أو يتهاون في مواصلة كفاحه التحرري الوطني، لا سيما أنّ اتفاقات الذلّ والعار التي وقعت مع كيان الاحتلال لم تؤدّ إلا إلى تأكيد حقيقية أن لا سبيل أمام الشعب الفلسطيني سوى الاستمرار بالمقاومة والانتفاضة لاستعادة حقوقه والحفاظ على هويته الوطنية العربية، واستطراداً الحفاظ على عروبة فلسطين..
يبقى بالطبع أن ترتقي قوى المقاومة الفلسطينية إلى مستوى تجربة الثورة الجزائرية التحررية، وغيرها من تجارب الشعوب الظافرة، بأن تبلور قيادة للنضال الوطني التحرري، تؤمن بالمقاومة الشعبية طريقاً وحيداً للتحرير، قيادة تضع استراتيجية تحررية شاملة، وتوظيف كلّ أشكال النضال الأخرى، الشعبي والسياسي والدبلوماسي، في خدمة المقاومة المسلحة.. تخوض النضال المسلح في كلّ فلسطين المحتلة، وتشكل غزة المحررة قاعدة لهذا النضال المسلح… وبالتالي عدم البقاء في حالة الانتظار، أو الرهان على وحدة وطنية تشمل السلطة الفلسطينية، لن تتحقق، لأنه رهان لن يقود سوى إلى إضاعة الوقت والتسبّب في إشاعة أوهام بإمكانية وحدة بين نهج مقاومة ونهج مساومة، رغم فشل الأخير وتبيان سقوطه وأنه لم يؤدّ إلا إلى تمكين العدو من تحقيق أهدافه وإلحاق الأذى بالنضال الوطني والحقوق الوطنية وإضعاف التضامن العربي والإسلامي والدولي مع القضية الفلسطينية، الذي كان في أوجه قبل توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم، الذي فتح ثغرة كبيرة وخطيرة استفادة منها العدو الصهيوني للحصول على اعتراف منظمة التحرير وكسر طوق المقاطعة العربية والإسلامية والعالمية الذي كان مفروضاً على كيان الاحتلال.