سبع سنوات و19 مليون دولار لم تكن كافية لانجاز مشروع ترميم مبنيي قصر العدل ووزارة العدل في بيروت. المدة والمبلغ كانا يكفيان، ربما، لتشييد مبنيين جديدين. المتعهد الذي فاز بالمناقصة في ظروف تشوبها «ملابسات غريبة» يعمل ببطء شديد، فيما لا تنفك الملاحق التي تضاف الى العقد الرئيسي ترفع الكلفة الباهظة أصلاً، في مخالفة لدفتر الشروط
يستحق ترميم قصر العدل ووزارة العدل في بيروت أن يدخل كتاب «غينيس» للأرقام القياسية كأطول فترة زمنية (7 سنوات) يستغرقها ترميم مبنيين أحدهما من خمس طبقات والثاني من ثلاث، وكأغلى مبلغ يُدفع (19 مليون دولار) مقابل... عدم ترميم شيء!
بوشر العمل في مشروع الترميم مطلع عام 2012، وكان مقرراً أن تنهي «شركة أنطوان مخلوف» التي التزمته الأشغال في غضون سنة ونصف سنة. مع بداية هذا العام، أطفأ المشروع شمعته السابعة من دون أن يتغيّر شيء في الظروف السيئة التي يعمل فيها المحامون والقضاة، فيما تسبق عوامل التقادم والاهتراء الطبيعي أعمال الترميم والتدعيم التي يقوم بها المتعهّد، ببطء شديد.
جولة قصيرة في قصر العدل، بين البهو الرئيسي وغرف المحاكمات والمصاعد والموقف الخارجي، كافية لاكتشاف مدى سوء المكان وعدم أهليته من كل النواحي. سقوف قاعات المحاكمات يأكلها النشّ، وبعضها لا يزال «على الباطون»، فيما يحول الصدأ دون فتح الشبابيك الحديدية ما يحوّل القاعات صيفاً، في غياب أجهزة التكييف، «أشبه ما يكون بالفرن»، بحسب أحد المحامين. بعض قطع سقف البهو الرئيسي سقطت وحلت فجوة سوداء مكانها، «لكن يصعب رؤيتها شتاء مع غياب الانارة واضطرارنا الى السير على ضوء الهاتف». أما المصاعد فتسير «عالبركة» (اعادة النظر بغرف المصاعد وحالتها لحظت في جداول مقارنة المشروع). شكل المبنى الخارجي ونوافذه المحطمة يوحي وكأن الورشة قد بدأت للتوّ، وليس قبل 7 سنوات. فيما الموقف الخارجي يبدو وكأنه ساحة لجمع الخردة... لولا لافتة «العدل أساس الملك».
الدولة تشرّع المخالفة
هذا المشروع، لجهة الكلفة الباهظة والشروط التي لم تنفذ، نموذج فاقع عن الطريقة التي تدير فيها الدولة مناقصاتها العمومية وعن لامبالاتها، لا بدفاتر الشروط ولا بالمال المهدور، ولا بطريقة عمل المتعهد... اذا ما كان يعمل أساساً. لا بل غالبا ما تشرّع مؤسسات الدولة هذه المخالفات وتطلبها بنفسها، وكأن هدر المال العام بات شرطاً لازماً في أي عقد. والكلام هنا يستند الى وقائع في هذا العقد شرّعت باب الفساد والهدر على مصراعيه. بدأ الأمر منذ اللحظة الأولى لاجراء استدراج عروض ضمّ 4 شركات، من بينها «شركة أنطوان مخلوف»، قبل أن تُستبعد هذه الأخيرة «لتضمينها افادة انتساب غير سارية المفعول الى مقاولي الأشغال العامة والبناء». انتهى التنافس بين الشركات الثلاث المتبقية الى فوز «شركة الجهاد للتجارة والمقاولات» بسعر اجمالي بلغ 19,996,045,740 ليرة لبنانية. لكن، «بسحر ساحر»، أعيد اجراء المناقصة بعد 15 يوماً، لتفوز بها... «شركة أنطوان مخلوف» نفسها، وبالسعر نفسه! وبمقارنة المحضرين، تبين أن محضر استلام العروض من قبل ادارة المناقصات يختلف بين الجلستين بالرقم والتاريخ (ما يعني ان مناقصة جديدة أجريت من دون ايضاح سبب إلغاء الأولى). والأغرب من ذلك كله أن «شركة انطوان مخلوف» «فازت بالمناقصة بسعر قريب جداً يصل الى حدّ التطابق (19,952,869,200) مع السعر الذي تقدمت به «شركة الجهاد للتجارة والمقاولات» في الجلسة الأولى. ويعني ذلك، وفق مرجع قانوني، أن «هناك تواطؤاً وتقاسماً للحصص، بتغطية من وزير الأشغال وبتسهيل من ادارة المناقصات، فضلا عن أنه من غير الجائز اعادة المناقصة بعد فتح الأسعار واطلاع الشركات العارضة عليها». ومن الامور المثيرة للريبة أيضاً أن «شركة بلال حمد» عُيّنت كاستشاري لمراقبة المشروع، وهي الشركة التي يملكها رئيس بلدية بيروت السابق بلال حمد الذي كان لا زال يشغل هذا المنصب يومها، ويفترض ألا تُلَزم أي أعمال الى شركته خلال ولايته منعا لتضارب المصالح.
من 12 الى 19 مليون دولار
وفي حين يؤكد خبراء أن مبلغ الـ19 ملياراً «ضخم جداً لتدعيم مبنيين ضد الزلازل»، تضاعفت المخالفات لتحرف المشروع عن هدفه الأساس، أي تدعيم الهيكل الخرساني لمبنيي قصر العدل ووزارة العدل لمقاومة الزلازل. فبعد مرور عام على تلزيم المشروع، فُتح مزراب الهدر. هكذا، أضيف جدول المقارنة رقم 1، أو الملحق الأول، الذي تضمن «استحداث غرف مؤقتة في الطابق الأرضي ونقل محطة الكهرباء واضافة حوائط لمقاومة الزلازل (رغم أن المشروع الأساسي أعدّ لتدعيم المبنى ضد الزلازل!) وغيره بقيمة 3 مليارات و500 مليون ليرة. ومدّدت مهلة الأشغال 12 شهرا اضافية ثم تسعة أشهر أخرى. بعدها أتى جدول المقارنة 2، بطلب من مجلس القضاء الأعلى، من أجل تأهيل جناحه واستحداث غرف جديدة (...) بقيمة 3 مليارات ليرة مع تمديد جديد لمهلة تسليم المشروع لعام ونصف عام. وتلى ذلك الجدول رقم 3 الذي تضمن توسعة الطابق الرابع واضافة غرف لدى رئيس التحقيق الأول في بيروت، وتعديلات على التقطيع الداخلي لزيادة عدد المكاتب في الطابق الخامس (لُحظت في المشروع الأساسي) وتأمين التدعيم لانشاء طابق سادس في المستقبل! كل ذلك بكلفة إضافية تبلغ مليارين و115 مليون ليرة. هكذا، رسا المجموع - حتى الساعة - على 28,567,238,344 ليرة لبنانية، على أن تسلّم الأعمال في 31/7/2019. هذا إن سلّمنا بأن حفلة حلب أموال الدولة ستنتهي هنا، ولم يرغب أي طرف باضافة ملاحق أخرى.
تواطؤ الادارة والعارض
يؤكد مرجع قانوني أن «75% من الفساد يجري تمريره عبر الملحقات التي تضاف الى الأشغال الرئيسية. ويسبق ذلك تواطؤ بين الادارة والعارض لحرق السعر الأساسي والفوز بالعرض ثم جني الأرباح من خلال الملاحق الاضافية». لكن اللافت أن الملاحق أقرّت بموافقة من ديوان المحاسبة، وبناء لطلب وزارة العدل ورؤساء المحاكم والمجالس القضائية. فهذه الجهات التي يفترض أن تحافظ على المال العام وتقمع المخالفات، هي التي أباحت مخالفة قانون المحاسبة العمومية، وخصوصاً المادة 147 التي تشترط في احد بنودها أن تكون الأشغال طارئة وغير متوقعة عند اجراء التلزيم الأول. والواضح أن أياً من الأعمال المضافة لا يحمل صفة «الطارئ» أو «غير المتوقع» خلال اجراء الدراسة الأولى. لذلك، وفق المصادر القانونية، فإن «كل الجهات الآنفة الذكر وضعت نفسها موضع شبهة بمجرد مطالبتها بأعمال اضافية ورتبت ديناً في ذمة الدولة من دون اجراء مناقصة جديدة والمرور بكل الخطوات القانونية اللازمة. والمعلوم أنه منذ اللحظة الأولى لاتمام العقد بين العارض والوزارة، يصبح دستور العلاقة دفتر الشروط الأساسي فقط لا غير».
الريّس استحلى ومعاليه استجاب
التمعنّ في قراءة المراسلات، تظهر ان المطالبة بتنفيذ أعمال اضافية جرت على قاعدة اعتبار وزارة العدل (في عهديّ الوزيرين شكيب قرطباوي وأشرف ريفي) ان الامكانية متاحة «للاستفادة من الاشغال الجارية لتلبية حاجات ملحة وضرورية»، واعتبار رؤساء الغرف أن الورشة أصلا قائمة والفرصة متاحة لتغيير الديكور واجراء تعديلات على بعض الأجنحة. هكذا طلب الرئيس الأول لمحكمة التمييز القاضي جان فهد اجراء تعديلات في تقطيع الجناح المخصص للرئاسة الأولى لمحكمة التمييز ومجلس القضاء الأعلى وغيرها من «الطلبات البسيطة». و«استحلى» رئيس مجلس شورى الدولة هنري خوري البلاط الذي طلب القاضي فهد تركيبه في الطابق الرابع، فطلب خوري استبداله بالـ«باركيه» الموجود في الطابق الخامس، وتزويد غرف مجلس الشورى بستائر. علماً أن كل ذلك يدخل في اطار تعديل دفتر الشروط الأساسي وكان يستدعي مناقصة أخرى. اذ لا يوجد أي مبرر قانوني لعقد اتفاق بالتراضي مع المتعهد نفسه. وحتى وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، نفسه، لم ير ضيرا في ارسال كتاب خطي الى رئيس مجلس الوزراء السابق نجيب ميقاتي يذكر فيه أنه بعد سنة وثلاثة أشهر على بدء الأعمال، «تبين أن هناك أشغالا اضافية لم تكن ملحوظة في دراسة وزارة الأشغال كاصلاح وتعديل قساطل الصرف الصحي ونقل المحطة الرئيسية للكهرباء والمصاعد وتسميك الأعمدة وغيرها».
رسا التلزيم على الشركة نفسها التي استبعدت من مناقصة فازت بها شركة أخرى!
هو «أمر غريب»، بحسب أحد خبراء البناء، إذ أن «الدراسة المعدة لترميم المبنى وصيانته كان يفترض أن تلحظ وضع الامدادات الصحية وسماكة الأعمدة. والا يصبح لزاما البحث عن سبب هذا الخلل، سواء في الادارة أو في الدراسة نفسها التي تكلّف عادة مبالغ قد تتخطى كلفة المشروع أحيانا». وقد طلب قرطباوي تأمين الاعتمادات الاضافية لهذه الأشغال التي قدرت بثلاثة مليارات و500 مليون ليرة. وعندما جاء الجواب بالرفض من وزارة المال، أورد وزير العدل ضمن مراسلته كتابا من الاستشاري بلال حمد يشير فيه الى أنه «لم يقبض أية أتعاب حتى تاريخه» ويؤكد أن «عدم دفعها وعدم الموافقة على اعتمادات اضافية للمقاول سيؤدي الى توقف الأعمال في الموقع». فعادت المالية ووافقت على الطلب. وهذا، بحسب المصادر القانونية، «ابتزاز واضح للضغط من أجل الموافقة على المبالغ الاضافية. فالقانون لا يسمح للمتعهد بوقف الأشغال حتى لو لم يقبض قرشا واحدا، وهو يتحمل مسؤولية كل الأخطار التي قد تنتج عن تهاونه أو عدم تنفيذه للعقد». ومن المفترض، هنا، الاستفهام عما أدى الى تغيير موقف وزارة المالية. كذلك بعث قرطباوي بكتاب الى وزير الأشغال السابق غازي العريضي يطلب فيه تأمين الاعتمادات لمتابعة الأشغال في المبنيين «بعدما أعطيت الموافقة الاستثنائية عليه بناء على الحاح وزارة العدل للسير به». ويعلق المصدر بأن «الموافقة الاستثنائية معيبة وغير واردة في أي قانون بل هي تحايل على القانون بحجة العجلة والضرورة. وهذا دليل ادانة لصاحبه أولا، فضلا عن أنه من المعيب أيضا أن يوافق ديوان المحاسبة على هذه الأشغال الملحقة».
هكذا، من دون اي دراسة جدية أو مراقبة أو محاسبة للمتعهد والادارة معا، زادت كلفة مشروع تدعيم مبنيي قصر العدل ووزارة العدل ضد الزلازل 22% على قيمة التلزيم الأساسي من دون أن يتغير أي شيء. ولا احد يعرف فعليا ما اذا تم تدعيم المبنيين بالفعل، الا في حال حصول زلزال ما.
وزير العدل ألبرت سرحان نفض يديه من كل مشروع التلزيم، وطلب مكتبه اختصار الطريق بسؤال وزارة الأشغال عن الموضوع. الا أنه أثنى أخيراً، في حلقة تلفزيونية، على «التقنية العالية التي اعتمدت في الأشغال». علماً أن لجنة الاستلام التي تسلمت الأعمال الجزئية المنجزة وفقا لدفتر الشروط، أوردت في محضرها بتاريخ 29/5/2015 بعد معاينة أشغال تدعيم وترميم وتأهيل وتقوية المبنيين واضافة انشاءات في مجلس شورى الدولة، أن «الكيول تبقى على عاتق من نفذها وأشرف عليها»، وهو ما يطرح علامة استفهام حول كل الأعمال الجارية التي أبقتها اللجنة تحت مسؤولية المتعهد فيما يفترض قانونا أن تكون على عاتق لجنة الاستلام!
بالطبع لا يتحمل وزير العدل الحالي المسؤولية عن طريقة التلزيم التي نفذها أسلافه والتي لا تليق بهذه الوزارة بالذات. لكن، بحسب قانونيين، يفترض أن يستدعي كل من شارك في اعداد وتنفيذ الملاحق ومحاضر الاستلام لاستيضاحهم وترتيب المسؤوليات بناء على ذلك. أما اذا اختار «التطنيش»، كما يحصل حتى الساعة، «عندها يصبح لزاما تحميله المسؤولية ومساءلته عن هذه الأعمال التي بدأت قبل سبعة أعوام وما زالت مستمرة من دون أي مراقبة أو محاسبة أو حتى استيضاح عما يحول دون انهائها»!