من دون تعليق هنا فصل من رواية «حكاية سورية» دار سائر المشرق، للكاتب محمد مصطفى علوش. تفاصيلها مستوحاة من الأرشيف الحربي الموثّق لحرب 1967، وكانت معركة تل الفخار تدور خلال إعلان وزير الدفاع السوري سقوط القنيطرة.
البطولة المنسية!
بينما كانت معظم الألوية السورية تتراجع، كانت معركة كبرى تدور في موقع تل الفخار في القطاع الشمالي حيث قرر بعض صغار الضباط والجنود المتخصصين بالقنص، البقاء للمواجهة وتغطية انسحاب رفاقهم بالرغم من أوامر القيادة بترك المواقع.
إستمرت المعركة لـ6 ساعات، ووصل الإلتحام إلى المواجهة بالسلاح الأبيض بعدما سقطت كتيبة كاملة من لواء جولاني الإسرائيلي بين قتلى وجرحى تحت نيران القناصة السوريين بقيادة الملازم أول أسعد، فيما كان معظم الضباط السوريين من الرتب العليا قد انسحبوا إلى الخطوط الخلفية، وبعضهم أصبح في دمشق.
من بين الضباط الذين بقوا للقتال كان الملازم غسان إبن الثانية والعشرين عاماً، القادم من قرية في ريف حماة إلى الكلية الحربية وبوجدانه هدف واحد هو رَد الاعتبار لهزيمة سنة 1948. كان يعيش على أساطير بطولات المجاهدين والهتافات التي كان يرددها وهو في المدرسة الثانوية:
«يا سوريا من حماك غير البعث الإشتراكي، كان بلورك مصدّي، وإجا الجهاد ضوّاك».
كبرت أحلامه بالوحدة، وآمن أنّ تحرير الأرض المقدسة أصبح قريباً! فالقائد جمال عبد الناصر يعمل على توحيد جيش مصر وجيش الشام، وكما تحررت فلسطين من الجيوش الصليبية على يد صلاح الدين، سيعيد عبد الناصر الحق لأصحابه وينتقم لكرامة العرب.
كم فرح وقتما أعلنت ثورة الثامن من آذار البعثية سنة 1963 التزامها بالوحدة والعمل لتحقيقها، ولم يتردد بدخول الكلية الحربية إيماناً منه بأنّ معركة التحرير آتية وهو لا يقبل إلّا بأن يكون مشاركاً فيها وفي الخطوط الأمامية!
تغيرت القيادات، تقاتلت الألوية السورية مع بعضها، أنهار الدماء سالت، وبقي هو على إيمانه. وكم كانت فرحة أهله كبيرة وقتما أخبرهم بأنه نُقل إلى الجبهة، وأنّ حرب تحرير القدس قريبة. غسان لم يعتد الهرب:
«مجابهة اليهود، قتالهم، قتلهم هو واجب ديني، وكرامة وطنية، فكيف أتراجع الآن وهم أمامي وبإمكاني تصيّدهم كالعصافير؟»
في شهادة لأحد الجنود الذين كانوا تحت أمرته ثم وقع بالأسر، وأفرج عنه بعد تبادل الأسرى بين سوريا وإسرائيل، روى الساعة الأخيرة للنقيب غسان!
«لا نزال نطلق النار، نحن في عرس، في ضيعتنا يطلقون النار في الأعراس، جنودي يحدون بفرح: يا فلسطين جينالك، جينا وجبنالك رجالك! إن هلهلت هلهلنا لك، وبقينا الطليعة قبالك... إن هلهلت يا سوريا الواحد منّا يقود المية!
هؤلاء الجنود الأبطال يحدون على ألحان رصاص بنادقهم. بحيرة طبريا، ووادي الحولة لا يزالان أمامنا، وإن حَجب اللهب أنظارنا! إنها مجرد أفواج قوارض عدوة تزحف تجاهنا ونحن نصطادها! لا لن تخيفنا القوارض، قد تبعث في نفوسنا الإشمئزاز، وهل نحن جبناء لنخاف منها ونهرب؟!
في قريتنا كنت لا أخاف شيئاً، كنت ألتقط الثعابين من أوكارها، بأناملي التي تشبه فكّي كماشة بقوتها، هذه الأنامل ضاغطة الآن على زناد بندقيتي... الموت؟! الموت هو قدر مكتوب، والحذر لا يمنع القدر!»
كم كانت فرحته كبيرة وقتما رأى جنوده يخرجون من خنادقهم بين دبابات العدو وينسحبون وهو يغطي انسحابهم، لقد أعطى بصموده الأمل بالنجاة لجنوده، ثوان وأطبقت مدرعة على خندقه، شعر بالخوف لحظتها، إرتجفت أطرافه، إنه الجحيم يمر فوقه! خطر له رميها برمانة، لكنّ أنامله كانت جامدة، سأل بصوت عال: «هل أنا مصاب؟»
حاول استعادة أفكاره، لم يكن هو المصاب ما عدا بعض الجروح الطفيفة، لكنّ رشاشه هو المصاب، إنهارت دموعه على شاربه لأنه شعر بفقدانه معنى وجوده، ملأه حب الحياة من جديد بعدما عبرت المدرعة خندقه، عادت الحفرة ملاذاً بعد أن كانت قبراً مُحكم الإغلاق للحظات!
رفع رأسه بنظرات تائهة، لم ير شيئاً من كثافة الدخان والغبار وكان الوقت بُعَيد المغيب، خرج من الخندق على بطنه وزحف طويلاً، ثم نهض وعَدا لنصف ساعة من دون هدف، شَق طريقه بين القذائف واللهب، تنقّل بين دروع لم يعرف هويتها، لم يعد قادراً على التمييز، ولم يعد يسمع!
توقف، رمى جسده المنهك على الأرض وغاب عن الوعي لساعات، لكنه عاد واستفاق بعدما لامست وجهه أشعة الشمس في بداية صباح العاشر من حزيران، تَحسّس جسمه بيده محاولاً التأكد من أنه ما زال على قيد الحياة، حاول إقناع نفسه بما حدث، لكنّ عقله رفض تصديق ما يراه.
كان اليهود على بعد مئة متر منه يحاصرون القنيطرة، شعر بالذل من عجزه في تلك اللحظة، لم يجرؤ على سحب مسدسه! فالمسدس للرجال! وهو الآن يشعر أنّ العدو يدوس على رقبته بعدما رأى أقدام الغزاة تدوس أرض الوطن.
وهو؟! ما مصيره الآن؟ لعن نفسه مراراً، أنّبها، كيف يفقد الأمل؟ ولكن هل هناك بعد ما رآه من أمل؟!
ساعة، ساعتان، وربما أكثر، كان يتخبّط وهو متمترس وراء صخرة، تمنى لو كان بإمكانه قتل نفسه في تلك اللحظة، أحسّ بالخوف، ترى كيف أصبح الآن يخاف الموت وهو الذي كان يتمناه؟!
لَحظ ساعتها الدم يتسلل من ثيابه ويشق طريقه كثعبان نحو التراب، فأحسّ بالارتياح، فهو مصاب، وأطرافه لم تتجمّد من الخوف بل بسبب الإصابة، قال بصوت مسموع: «الحمد لله»
وصلته كلمات مبحوحة من جندي منبطح على بعد أمتار منه: «ملازم غسان! أنا المجنّد حسين»
أخفى وجهه، أطبق جفونه ليخنق دمعته: «حسين، من معك من الرفاق؟»
إقترب حسين زاحفاً وتبعه جندي آخر ثم ثالث، وصلهم نواح امرأة تتلَمّس طريقها، تعرّفت إليهم، زحفت إلى جانبهم، همست: «ماذا تفعلون هنا؟ إخوانكم ما زالوا يقاتلون في شوارع القنيطرة»
إنتفض غسان واقفاً ليذهب ويشارك في المعركة، ما هي إلا ثوان حتى أُصيب برشق رصاص أرداه فوراً!
هذا ما رواه المجنّد حسين عند نزوله من شاحنة الصليب الأحمر الدولي التي أقَلّته من مستشفى ميداني إسرائيلي، بعد توقف الحرب بأسابيع.
بكى كالأطفال وهو يروي كيف طاروا جميعاً في الهواء بعدما تبعت رشقات الرصاص التي قتلت الملازم قذيفة مباشرة من دبابة بعثرت أطرافهم، فتناثرت لحومهم على الأرض وعلى الشجر وعلى العشب، ولم يَع نفسه إلا بعد أيام، فاقد الساقين في المستشفى، وحوله نجمة داود مرسومة على كل شيء!