يستمر قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب الاعتراف بالسيادة الاسرائيلية على الجولان السوري المحتل عرضة لكثير من التأويل حول أسبابه وأبعاده والخلفيات، في ظل مؤشرات تدل الى انّ الرئيس الاميركي يستعين على التملّص من وعوده لحلفائه غير القادر على الايفاء بها حتى الآن، بافتعال وعود وقرارات وجبهات جديدة واهية ووهمية تصرف الانظار عمّا يريدون، ولا تُسمن ولا تغني الموعودين عن جوع.
للوهلة الاولى ظنّ لبنان أنّ قرار ترامب في شأن الجولان سيشدد من ربقة الاحتلال الاسرائيلي على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر اللصيقة جغرافياً بهضبة الجولان، قبل ان يتنبّه الجميع الى انّ هذا القرار لا يعدو كونه تأييداً أميركياً إضافياً للاحتلال الاسرائيلي لهذه المنطقة المستمر منذ حرب حزيران 1967، فترامب ليس في إمكانه وهب أرض لا يملكها لمن لا يحق له ان يملكها.
ولكن هذا القرار، على رغم من ذلك، أثار مخاوف من احتمال ان يتسبّب بحرب في المنطقة، وتحديداً على الجبهة اللبنانية والسورية، خصوصاً انه يأتي في ظل تنامي الحديث عن توجّه لإطلاق مقاومة لتحرير الجولان في هذه المرحلة التي تتواصل فيها الغارات الجوية والصاروخية الاسرائيلية على العمق السوري، او في مرحلة لاحقة تكون فيها البلاد السورية قد استقرت في الحد الأدنى.
ولم يخف لبنان حذره ممّا يمكن ان يكون لهذا «القرار الترامبي» من انعكاسات او تداعيات على اراضيه المحتلة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر، بحيث يمكن لإسرائيل أن تأخذ منه ذريعة لجعلها مشمولة بما ذهب اليه هذا من غايات وأهداف مضمرة او مكشوفة.
وإذ ذهب البعض الى القول انّ قرار ترامب سيدفع اسرائيل الى ترسيخ احتلالها للجولان ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فإنّ لبنان يتصرف ازاء هذا الامر على اساس انّ هذا القرار لا مفاعيل قانونية له لأنه ليس صادراً عن الامم المتحدة او مجلس الامن الدولي أو اي من المنظمات والمؤسسات الاممية المعنية، وإنما هو قرار أصدره رئيس دولة حليفة لإسرائيل قد تكون دولته مؤيدة له، لأنها تدرك انّ ارض الجولان السوري محتلة وليست جزءاً من ارض فلسطين التي تحتلها اسرائيل وتدّعي أنها «أرض الميعاد» بالنسبة الى اليهود الذين تستجلبهم من كل أصقاع الدنيا الى فلسطين المحتلّة لتكريس «يهودية» كيانها المحتل.
وقرار ترامب، يقول احد السياسيين، لن يغيّر في المفاعيل القانونية الحاكمة للجولان السوري المحتل منذ العام 1974، والمتمثلة بقراري مجلس الامن الدولي 243 و338 اللذين تخضع لأحكامهما أيضاً مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانية المشمولة برقعة عمل قوات حفظ السلام الدولية «الأندوف» المنتشرة في الجولان، وبقواعد الاشتباك المعمول بها بموجب القرارين الدوليين.
وهذه القوات سيجدد مجلس الامن فترة انتدابها قريباً، ما يعني انّ قرار ترامب لم يغيّر في الواقع القانوني للجولان قيد أنملة. علماً انّ الامم المتحدة ومجلس الامن والدول الاوروبية والعربية لم تعترف بقرار ترامب، وأكدت انّ الجولان أرض سورية محتلة.
كذلك، يضيف مسؤولون وسياسيون، انّ مزارع شبعا وتلال كفرشوبا محكومة ايضاً بإقرار سوري شفوي ورد على لسان الرئيس السوري بشار الاسد ومسؤولين سوريين آخرين بأنها أراضٍ لبنانية، وهي في لحظة ما ستكون مرتبطة بعملية ترسيم حدود ستجري بين لبنان وسوريا.
ويشير هؤلاء الى انّ هذه المزارع وتلال كفرشوبا ومعها بلدة الغجر (التي استعادها لبنان عام 2006 ثم عاودت إسرائيل احتلالها)، هي موضع توافق داخلي وإجماع وطني على لبنانيتها، وعلى أحقية لبنان في استعادتها او تحريرها من الاحتلال الاسرائيلي بكل الوسائل المتاحة من الديبلوماسية الى المقاومة واي عمل عسكري آخر مشابه. وانّ لبنان في هذه الحال يبقى محتفظاً بحقه في تحرير أرضه المحتلة وعدم إعطاء قرار ترامب أي مفاعيل قانونية تكرّس الاحتلال الاسرائيلي لها.
ويعتقد ديبلوماسيون انّ الولايات المتحدة كإدارة ودولة تدرك انّ قرار ترامب لن يغيّر في الواقع الاحتلالي للجولان، وانّ الرئيس الاميركي اراد منه تحقيق اكثر من هدف:
أولاً - ان يدعم نتنياهو انتخابياً فضلاً عن دعم قرار اسرائيلي سابق صدر عن الكنيست الاسرائيلي بعد سنوات قليلة من حرب تشرين 1973، وقضى بضمّ الجولان الى «أراضي اسرائيل» أي فلسطين المحتلة.
ثانياً - انّ ترامب، الذي يستعد ونتنياهو لفرض «صفقة القرن» حلاً للقضية الفلسطينية والنزاع العربي ـ الاسرائيلي، يعملان على تجميع ما يعتبرانه «أوراق قوة» لاستخدامها في المفاوضات على هذه «الصفقة» تلك التي سيطرحها ترامب قريباً، ويبدو انه يعتقد انّ اعترافه بسيادة اسرائيل على الجولان من شأنه ان يشكّل «ورقة ضغط» تفيد في التفاوض الى جانب قراره بنقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس واعلان المدينة المقدسة «عاصمة أبدية لإسرائيل».
ثالثاً - انّ ترامب المأزوم داخلياً بما يهدد بقاءه في البيت الأبيض نتيجة ملفات عدة، والذي أغدق الوعود على كثير من دول المنطقة وحصد من العقود ما يمكن عند نفاذها أن تملأ الخزانة الاميركية المأزومة، لم يفِ عملياً بعد بأي من هذه الوعود لأصحابها، ولذلك ينبري الى توسّل اتخاذ خطوات مفاجئة وغير متوقعة.
أولاً لتحويل الانظار عن وعوده التي ما تزال «عرقوبية»، وثانياً للهروب من حروب قطع وعوداً بشنّها هنا وهناك وعلى هذا المحور او ذاك، ومنها شَن حرب على ايران لا يبدو حتى الآن انها حاصلة فيما يصعّد العقوبات الاقتصادية عليها هادفاً لجذبها الى المفاوضات السياسية وليس الى المواجهات العسكرية، التي إن حصلت ستكون مكلفة جداً وغير مضمونة النتائج.
وقد وعد ترامب دول الخليج بإنهاء النفوذ الايراني أو تقويضه في المنطقة، بما يضع حداً لشكوى هذه الدول من تدخل ايران في شؤونها الداخلية. ولكنه حتى الآن لم يحقق اي شيء، بل انّ ما يظهر يشير الى انه استدار للاهتمام بتركيا اكثر من اهتمامه بإيران.
وفي المقابل، فإنّ دول الخليج تتعاطى بحذر مع الولايات المتحدة، وتتريّث في تنفيذ الصفقات المعقودة مع واشنطن لأنها لم تشعر بأنّ ترامب بدأ عملياً تنفيذ ما وعدها به، وذلك على رغم من قلقها المستمر من نفوذ ايران المتنامي في المنطقة.
ويقول البعض في هذا المجال انّ دول الخليج بدأت تضع صفقات التسلح وغيرها المعقودة مع الولايات المتحدة في حال انتظار، علماً أنّ ما نفّذ من هذه الصفقات ضئيل جداً، في ظل تنامي نفور خليجي سياسي وشعبي من الطريقة الفظة التي يخاطب بها ترامب دول المنطقة، فضلاً عن تنامي شعور بأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها يضعون مصالحهم فوق كل اعتبار غير آبهين بما يمكن ان يؤول إليه مصير هذه الدول التي تشعر أنها تتعرض للاستنزاف سياسياً واقتصادياً ومالياً في غياب الحلول السياسية المطلوبة للحروب والازمات المشتعلة على مساحة الاقليم، والتي يفترض بواشنطن وحلفائها أن يساهموا في العمل لإيجادها، وليس الدفع في اتجاه تسعير هذه الحروب أكثر فأكثر لبيع مزيد من الاسلحة وغيرها.