في كل مرة كانت تساورني الشكوك حول العلاقة بين حماستي لتكريم المعلم بطرس البستاني والتمسك بتعاليمه واتخاذ سيرته مقالا يحتذى في ممارسة الشأن العام، وبين إنتسابي للعائلة التي رفع المعلم بطرس اسمها ومنح أبناءها سمعة تتصل بالعلم والتعليم، كنت اعود إلى مقارنة سيرة المعلم وحجم إنجازاته بالعظماء الذين خلدهم التاريخ، وأكتشف مجددا حجم الظلم الذي لحق به وحجم الظلم الذي لحق بنا بغيابه، وأكتشف صدق وصدقية ما أشعر به من أسباب وطنية لرفع هذا الظلم عن المعلم وعن لبنان ببقائه في العتمة، فلو إكتشفنا هذا المعلم بالمعنى العميق للكلمة وإتخذناه معلما للوطن، لكان شعار الدين لله والوطن للجميع شعار الدولة ومؤسساتها ومتضمنا بالقسم الذي يؤديه رئيس الجمهورية عندما يمسك أزمة الحكم، ولكانت تسمية مدارسنا الحكومية بالمدارس الوطنية ذات معنى أبعد من الشكليات، والذي إختار تسمية المدرسة الوطنية قبل قرن ونصف لم يفعل ذلك صدفة أو عبثا، ولكنا جعلنا العلم والتعليم عمودا فقريا لنهضتنا، فبه يغتني رأسمالنا البشري الذي يشكل محور أي نهوض لاقتصادنا، وبه كما يقول المعلم تتحرر المرأة وتحرر المجتمع من الجهل والتخلف بتحررها منهما .
كانت كل مراجعة من هذا النوع تعيدني أشد ثقة بما أؤمن به من أن القضية أبعد من مجرد دعوة لتكريم عظيم من بلادي، أو أحد الأجداد الذين بهم أفتخر، وكنت أزداد عزما على إيجاد المناسبة التي تتيح لي أن أشرح ما في داخلي من توق ليطلع اللبنانيين ونخبهم على فكر المعلم ويناقشوا معي بصدق ومصداقية مدى ما يمثله ككنز من كنوز نهضتنا الوطنية .
من عناوين عظمة المعلم أن الذين يلتقون حول فكره قد يختلفون حول أشياء كثيرة بمجرد أن يضعوه جانبا، وقد ندر أن يلتقي اليساريون واليمينيون والليبراليون، كما يلتقي المؤمنون والعلمانيون، وكما يتلاقى المتعصبون للبنانيتهم بالتمعصبين لقوميتهم السورية والمتعصبين لقوميتهم العربية على مرجعية المعلم بطرس البستاني، وهذا لا يدل على غموض أو ميوعة أو ضعف فكري في مقولات المعلم، ولا على كونها بقيت خارج لب القضايا التي تحدد جوهر العقائد وتمايزاتها، بقدر ما يعني عكس ذلك تماما، أن هؤلاء جميعا ينقسمون إفتراضيا بسبب العصبية لا بسبب العقيدة، فهم عندما يجدون لدى المعلم وفكره بعضا من عقيدتهم، فإنما يجدون بعض الآخر الذي معه يختلفون، وهكذا تكون سيرة وأفكار المعلم وأتباعه المتنوعون ، دليلنا على إمكانية أن تكون متدينا وعلمانيا، وأن تكون يساريا مؤمنا بالعدالة الإجتماعية ومتمسكا بالحرية الفردية والملكية الفردية، أو أن تكون متعصبا للبنان الوطن وتجد مساحة لمشرقية هي مداك الطبيعي أسماها السوريون القوميون بالأمة، وأن تنفتح على العالم الأرحب الذي تجمعك به اللغة الواحدة، وقد أسماه العروبيون بالقومية .
بقي كل ما سبق مجرد فرضيات ذهنية وإمتحانات وإختبارات تجري في داخلي، حتى تسنى لي أن أتشارك فكرة إحياء مئوية ميلاد المعلم بطرس البستاني مع مجموعة من الأصدقاء والنخب اللبنانية، ووضع الفكرة في التداول، لأكتشف ونكتشف جميعا خلال شهور قليلة، وبقليل من الجهد، أن كرة ثلج تنطلق وتكبر، وان من كنا نظنه مجهولا يحتاج إلى تعريف الناس بفكره، محفور في وجدان المئات بل الآلاف من الذي تقاطروا يضعون إمكاناتهم وما يعلمون عن المعلم بطرس البستاني، وما يمكنهم فعله للمشاركة في الإحياء بكل حماسة وفرح، وها هو إحياء المئوية الثانية لميلاد المعلم بطرس البستاني يتحول إلى عمل وطني كبير سيمتد لعام كامل يبدأ بعد شهر، تتشارك فيه وزارات وإدارات حكومية مع مؤسسات إعلامية وثقافية وجمعيات وشخصيات في لبنان والخارج، وأملنا أن ننجح في إطلاق تيار ثقافي يحمل أفكار المعلم بطرس البستاني ويواصل العمل بوحيها، خشبة خلاص وقاعدة جمع لا قسمة .
بعد شهر ستشرق علينا مجددا شمس المعلم بطرس البستاني، وهذه المرة سيكون وعدنا أنها لن تغيب مرة أخرى .