عندما انطلقت سفينة الأحلام «تايتانيك» في رحلتها الاولى عام 1912 الى نيويورك كان من المستحيل على أحد أن يفكر باحتمال غرقها، ففي الأساس قال مصمّمها الذي غرق في الرحلة «إنها السفينة التي لا تغرق». وفي ليلة 14 نيسان كان الهدوء يسكن المحيط ليجعل منه صورة أقرب الى بحيرة وسط مياه هادئة وسكون مريب، قبل أن تصطدم الباخرة بجبل الجليد وتقع إحدى أبشع الكوارث البحرية في التاريخ.
وفي نيسان 2019 هدوء غريب يلف ساحة الشرق الاوسط. وعلى رغم من توافر كافة اسباب الاشتباك والجلبة السياسية والامنية حتى، الّا أنّ هدوءاً غريباً يسود الشرق الاوسط، وهو قد لا يطول في انتظار الاصطدام بجبل الجليد الاول، والمقصود هنا نتائج الانتخابات الاسرائيلية، ومن بعده جبل جليد ثانٍ وهو الاعلان عن «صفقة القرن» بكل بنودها الصعبة، لا بل القاسية، ومن ثم جبل الجليد الثالث وهو المتعلق بالحزمة الجديدة من العقوبات على ايران والتي باتت صعبة على الاقتصاد الايراني وهو ما يثير جدلاً، لا بل انقساماً في الرأي داخل أروقة القرار الاميركي.
فمساء غد من المفترض أن تنقشع الصورة حول الخريطة السياسية الداخلية لإسرائيل. ولا بد من الإقرار أنّ هذه الانتخابات كانت الأكثر كلفة في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية من الناحية السياسية، ولاقت موسكو واشنطن في تقديم الهدايا الانتخابية لبنيامين نتنياهو ما يعكس وجود مشروع اقليمي كبير يرتكز على نجاح نتنياهو في بقائه في رئاسة الحكومة الاسرائيلية. والتقاطع الاميركي ـ الروسي في الشرق الاوسط يعني انّ ثمّة قطاراً كبيراً سيطلق صفارته للانطلاق في مشواره الصعب بعد إعلان نجاح نتنياهو.
لكن المشكلة انّ الصورة الانتخابية لا تبدو واشحة وأنّ ضمان فوز نتنياهو ليس محسوماً على رغم من كل هذه الهدايا «التاريخية» الثمينة وهنا المشكلة.
فالرئيس الاميركي دونالد ترامب نفسه والذي وضع ثقله لمصلحة نتنياهو كان متردّداً في الامس حين اعترف أنّ الصورة غير واضحة، مثنياً على نتنياهو ومنافسة بيني غانتس على حد سواء. فعدا أنّ للشارع الاسرائيلي حساسيته تجاه التدخل الاميركي في شؤونه السياسية وهو ما ادى مثلاً الى سقوط شيمون بيريز عام 1996 وسقوط مشروع «الشرق الاوسط الجديد» معه، فهو اي الشارع الاسرائيلي يحمل انجذاباً تلقائياً تجاه الجيش ورجالاته ما جعل حزب «ازرق - ابيض» والذي يضم أربع رؤساء أركان سابقين يلقى تعاطفاً وتأييداً واسعين.
وفي الحسابات هنالك ما يقلق، ففي حال فوز حزب «الليكود» كونه الحزب الاكبر في اسرائيل متفوِّقاً على حزب «ازرق ـ ابيض» الحديث الولادة، فإن واشنطن ستساعد نتنياهو في تشكيل حكومة جديدة مهمتها التسويق لصفقة القرن التي ستحدث زلزالاً في الشرق الاوسط، وعلى لبنان أن يستعدّ له من زاويتي توطين الفلسطينيين والانطلاق في ترسيم الحدود البحرية، وربما اكثر من ذلك في مرحلة لاحقة، ويكفي ما قاله وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي في الاردن لمعرفة ما ينتظر المنطقة من مشروع «صفقة القرن». فهو دعا حرفياً الى طمأنة اسرائيل وتبديد مخاوفها في محيطها العربي.
واضاف: «يجب أن نبحث في طريقة تشجيع اسرائيل لتشعر أنها جزء من منطقة الشرق الاوسط». والواضح انه يتحدث هنا عن تقديمات تريدها اسرائيل جغرافياً وامنياً.
أما في حال خسارة نتنياهو وتراجع حزب «الليكود» الى المرتبة الثانية بعد «أزرق ـ ابيض»، فإنّ ترامب سيندفع على الارجح في اتّجاه حلول حربية لدفع الأثمان التي تستوحب اعادة إمرار مشروعه، والأكثر رجحاناً أن يكون قطاع غزة هو ساحة العمليات، مع عدم استبعاد توجيه ضربات محددة قد تطاول مواقع معيّنة في لبنان والتي تعتقد اسرائيل انها للصواريخ الدقيقة التوجيه.
وخلال زيارة وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو لبيروت، قيل أن تحذيراً اميركياً تركّز حول ضرورة التخلص من هذا النوع من الصواريخ والذي يشكل خطاً احمر اسرائيلياً تؤيّده الادارة الاميركية وتتبنّاه.
وفي المعلومات التي ترددت انّ السفير ديفيد هيل والذي رافق بومبيو التقى بعيداً من الاعلام وزير الخارجية جبران باسيل فور وصول الوفد الى بيروت، وتحدث معه في الملفات المطروحة، اضافة الى موضوع الترسيم البحري، ناصحاً إياه بأخذ مسافة من «حزب الله» مع الاشارة الى انّ هيل هو من الديبلوماسيين الاميركيين المعدودين الذين احتفظوا بعلاقة جيدة مع باسيل.
وقبل وصوله الى لبنان، طلب بومبيو من فريق عمله تحضير بيان عنيف ضد «حزب الله» وايران، ليعلنه من بيروت، وطلب الاستعانة بشخصيات اميركية من اصول لبنانية لوضع الافكار المطلوبة في هذا الاطار وهذا ما حصل. وخلال التواصل بين وزارة الخارجية والسفارة الاميركية في بيروت، كان للاخيرة رأي مختلف حيال الإدلاء بمواقف عنيفة ورفعها الى هذا المستوى.
والتباين في الرأي داخل «مطبخ» القرار الاميركي حيال التعاطي مع ايران و«حزب الله» اصبح اكثرَ وضوحاً.
ذلك انّ هذا التباين ينقسم بين مَن يدعو الى رفع مستوى الضغط اكثر على ايران و«حزب الله» عبر مزيد من العقوبات القاسية في أيار المقبل، ومن انصار هذا التوجّه صقور إدارة ترامب مثل بومبيو ومستشار الامن القومي جون بولتن، في مقابل اعتماد سياسة متردّية وتخضع لدرس مشبع لكل خطوة تجنّباً لإيصال ايران الى مرحلة تحريك مخالبها في المنطقة واستهداف المصالح والقواعد الاميركية، ومن انصار هذا التوجّه الجيش والمخابرات اضافة الى ديبلوماسيين عريقين.
ومثلاً، يقول نائب وزير الخارجية الاسبق وليم بيرنز إنه لا يعتقد أنّ العقوبات ستؤدي الى تغييرات كبرى واستسلام النظام ورفع الراية البيضاء. واضاف منتقداً القرار الاميركي بالاعتراف بضم الجولان، أنّ هذا القرار سيفتح الطريق امام الرئيس الروسي لضمّ «القرم» اليه.
المهم أنّ القيادة العسكرية الاميركية تدرس احتمال رفع حال التأهّب لقواتها في المنطقة تداركاً لأيِّ تطورات في حال وضع حزمة عقوبات قوية وجديدة على إيران. وربما الاكثر صحة، في انتظار نتائج الانتخابات الاسرائيلية ومعرفة مصير نتنياهو ومن خلاله مصير المشروع السياسي لترامب في الشرق الاوسط، أنه فعلاً هدوءُ ما قبل العاصفة.