شكلت عملية تسليم رُفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل الذي كان مدفوناً في سوريا الى بنيامين نتنياهو، وفق سيناريو وإخراج روسيَّين، اختباراً صعباً للعلاقة بين موسكو ودمشق التي بَدا أنها فوجئت بـ«الهدية الروسية» الى تل أبيب، بل إنّ البعض ذهب الى حدِّ اعتبارها بمثابة «الحليف المخدوع».
لا ينكر بعض أطراف محور المقاومة الاستياء ممّا جرى، ربطاً بأمرين: الاول يكمن في تجاهل الرئيس فلاديمير بوتين القيادة السياسية السورية وامتناعه عن التنسيق معها في شأن سيادي بامتياز. والثاني يتمثّل في استسهال بوتين تقديم هدية ثمينة من كيس سوريا ومحور المقاومة الى عدوهما الاساسي، من دون الحصول في المقابل على ايّ مكاسب لهذا الفريق، تحمي ماء وجهه على الاقل، من قبيل مبادلة رُفات الجندي الاسرائيلي، الذي قتل في معركة السلطان يعقوب أثناء مشاركته في غزو لبنان عام 1982، بمعتقلين لدى الكيان الاسرائيلي أو حتى برفات شهداء.
لكن، وعلى رغم من الانزعاج الذي شعرت به القيادة السورية بعد تغييبها، شكلاً ومضموناً، عن «صفقة الرُفات»، إلّا انّه من المستبعد ان تؤدي العوارض المترتبة على «اللسعة» الروسية الى تصدع التحالف الاستراتيجي بين موسكو من جهة ودمشق ومحور المقاومة من جهة أخرى، في اعتبار انّ وظيفة هذا التحالف لم تنتهِ بعد في مواجهة الارهاب، وإن يكن البعض يعتقد أنّ الثقة قد اهتَزّت بفعل ما جرى.
غالب الظن انّ الطرفين سيتجاوزان تداعيات «هدية» بوتين الى نتنياهو، لحساب المصالح الاستراتيجية المشتركة التي تجمعهما، مع سَعي سوري في الوقت نفسه الى الاستفادة من الدرس الاخير لتحسين شروط العلاقة الثنائية وآلياتها، حتى لا تتكرر تجارب مشابهة لواقعة تسليم الرُفات، من خلف ظهر دمشق.
إلّا انّ بعض المرتابين في الحسابات الروسية، ضمن محور المقاومة، يعتبرون انّ سلوك بوتين بات يدعو الى «القلق المشروع» ويحرّض على طرح علامات استفهام وتعجُّب، لافتين الى انه سبقت تسليم رُفات الجندي في توقيت يخدم نتنياهو انتخابياً، غارة إسرائيلية استهدفت العمق السوري في حلب، وشملت أهدافاً تقع على بُعد كيلومترات قليلة من مطار عسكري روسي، «ما يقود الى الاستنتاج بأنّ الروس كانوا على علم مسبق بهذه الغارة التي تمّت في حيّز جغرافي يشكل عمقاً حيوياً لطائراتهم الحربية».
ويتوقف هؤلاء عند الصمت الروسي «الغريب» إزاء الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على أهداف سورية وإيرانية وأخرى تعود الى «حزب الله» في سوريا، ملاحظين انّ فلاديمير بوتين ودونالد ترامب يتسابقان على إرضاء نتنياهو ومنح الهدايا له، لتسهيل نجاحه في الانتخابات، «إذ وفيما كان رئيس حكومة الاحتلال لا يزال يحتفل بقرار الرئيس الاميركي الاعتراف بالسيادة الاسرائيلية على الجولان، إستضافه الرئيس الروسي في موسكو لتسليمه رُفات الجندي باومل وإعطاء حملته الانتخابية قوة دفع إضافية».
روايتان متضاربتان
والى حين تبيان المفاعيل المترتبة على «ملف الرُفات»، برزت في الكواليس روايتان لما حدث:
• الاولى، يعكسها مصدر قريب من تنظيم فلسطيني كان مؤثراً في مخيم اليرموك، وتفيد أنّ بوتين صادق ومُحق في تأكيده أنّ العثور على رُفات الجندي زخاريا باومل تم بالتعاون مع «الشركاء السوريين»، كما انّ دمشق بدورها صادقة ومُحقة في نفي علمها بذلك. ويشير المصدر الى انّ الجانب الروسي تمكن من الوصول الى مكان دفن جثة الجندي في «اليرموك» بمساعدة، على ما يبدو، من ضباط سوريين موجودين على الارض، تَولّوا التنسيق مع الاستخبارات الروسية وقدموا لها المعلومات والتسهيلات، إنما من دون معرفة القيادة السياسية السورية.
ويلفت المصدر الى انّ موسكو توصلت الى تظهير هوية الجندي الاسرائيلي منذ فترة، بعد إجراء الفحوصات الضرورية وإحضار عيّنات من تل أبيب، لكن تم تأجيل الاعلان عن النتيجة الى هذا التوقيت تحديداً، لتعزيز أوراق نتنياهو في الانتخابات الاسرائيلية.
في المقابل، تملك أوساط وثيقة الصلة بأحد أطراف محور المقاومة والممانعة رواية أخرى مخالفة تماماً، وقوامها انّ السبب الاساسي لما حصل يعود الى «خيانة» إرتكبها مسؤول فلسطيني تابع لفصيل على خلاف مع سوريا، وكان مقيماً في «اليرموك»، حيث تولّى هذا المسؤول «نبش القبور» والتعاون مع الروس للوصول الى مكان وجود الرُفات.
ولا تقلّل تلك الاوساط من شأن اللوبي الاسرائيلي في روسيا، والذي دفع ايضاً في اتجاه تحقيق هذه الخدمة الانتخابية لنتنياهو، بالتقاطع مع مصلحة روسية في دعم رئيس الوزراء الاسرائيلي وإنجاحه، على قاعدة تفاهمات معينة بين بوتين ونتنياهو.
وتستبعد الاوساط ان يكون بوتين قد تعمّد عن سابق تصور وتصميم الاساءة الى القيادة السورية، مرجّحة انه تعمّد الترويج أنها كانت على علم بمسار قضية الرُفات، مراعاةً لوضعها ولصورتها، وحتى لا تبدو في مظهرِ مَن لا يعلم بما يجري على ارضها، إلّا انّ الحصيلة الاجمالية أتت معاكسة وأساءت الى دمشق.
ووفق تقديرات الاوساط نفسها، فإنّ بوتين تجنّب الإبلاغ الى دمشق رسمياً بالعثور على رُفات باومل والنية في تسليمها لإسرائيل، قبل إتمام المهمة، لاقتناعه بحساسية هذه العملية بالنسبة الى القيادة السورية ولإدراكه صعوبة ان توافق عليها، من دون ان تكون شريكة في ترتيباتها التي كان يجب ان تتضمّن في رأيها تبادلاً مع الجانب الاسرائيلي.
وتجزم الاوساط أنه لو كانت دمشق هي التي أمسكت بملف جثة الجندي باومل وتولّت إدارته، فإنها لم تكن لتسمح بتسليم بقاياه الى الاحتلال الاسرائيلي من دون مقابل وتبادل.
وتشدد الاوساط الوثيقة الصلة بمحور المقاومة على انّ ملابسات عملية تسليم الرُفات لتل ابيب لن تترك تداعيات على جوهر العلاقة التحالفية بين موسكو ودمشق، التي تأخذ في الاعتبار انّ هناك فروقات ثقافية وسياسية مع الروس في النظرة الى اسرائيل، «ذلك انهم لا يرونها كما نراها ولا يصنّفونها عدوّاً كما نصنّفها».
وبمعزل عن واقعة تسليم الرُفات في حد ذاتها، تلفت الاوساط الى انّ موسكو تدير عموماً علاقاتها الجيدة مع تركيا واسرائيل بطريقة تراعي حتى أقصى الحدود مصالح دمشق، في ما خَص الأزمة السورية تحديداً «وهذه حقيقة يجب الإقرار بها».
على الضفة الأخرى من الحدث المباغت، يقول السفير الروسي لدى بيروت الكسندر زاسبيكين لـ«الجمهورية» إنه لا يمكنه أن يزيد على ما قاله بوتين بالنسبة الى ظروف تسليم رفات الجندي الى اسرائيل، ونحن نتقيّد بما يُدلي به الرئيس ونحترم مرجعيته.
ويشدّد زاسبيكين على الطابع الإنساني للخطوة التي بادر اليها بوتين، معتبراً انّ هناك تفسيرات مبالغ فيها أعطيَت لها، ويضيف: «أعتقد انّ البعض توسّع في استنتاجاته وتأويلاته، وأعطى ما حدث أبعاداً تفوق حجمه الحقيقي ومعناه الواقعي».
ولدى سؤاله هل يمكن أن ينعكس «ملف الرفات» سلباً على العلاقة التحالفية بين روسيا وسوريا؟ أجاب زاسبيكين: علينا أن نراقب المستجدات وننتظر كيف ستتطور الامور، ولكن أنا لا أتوقع تأثيرات سلبية على تحالفنا مع دمشق، إنطلاقاً من وجهة النظر الروسية التي تضع عملية تسليم الرفات في إطار إنساني بالدرجة الاولى.