يبدو أنّ موجة ثانية من التحرّكات الشعبيّة بدأت تنشط في أكثر من دولة عربيّة مُجدّدًا، بغضّ النظر عن التسمية أكانت "ربيعًا" أم غير ذلك، حيث أنّ الكثيرين يصفُون ما حصل في عدد من الدول العربيّة خلال السنوات القليلة الماضية بالشتاء العربي وحتى بالجهنّم العربي، نظرًا إلى الحروب والمآسي التي حلّت في العديد من دول المنطقة وشعوبها، ومن دون تحقيق أي نتيجة في أغلب الأحيان! فأين تقع التحرّكات الشعبيّة الجديدة، وهل يُمكن أن تُشكّل فعلاً مَوجة جديدة من الإنتفاضات على الحُكّام، وكيف ستنتهي؟.
بداية، لا بُدّ من التذكير أنّ ما سُمّي في السابق "الربيع العربي" والذي كان إنطلق من تونس، لم يُحقّق أهداف الحُرّية والرخاء والإزدهار الإقتصادي في أي مكان! ففي تونس حيث جرت الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي سنة 2011، إنّ الأوضاع اليوم ضاغطة إقتصاديًا وماليًا، في ظلّ إرتفاع نسبة البطالة، وإزدياد التضخّم بالتزامن مع تراجع النموّ. وفي مصر وبعد الإنتفاضة الشعبيّة ضُدّ حُكم الرئيس المصري حسني مبارك، دارت الأحداث دورة كاملة، وإنتقل الحُكم من يد "الإخوان المُسلمين"(1) إلى يد "العسكر" مُجدّدًا مُمثّلاً بالرئيس عبد الفتاح السيسي، الأمر الذي يعتبره الكثيرون بأنّه نوع من الإستمرار لحكم الرئيس مُبارك لكن بوجه جديد! وفي سوريا، وبعد سُقوط أعداد ضخمة من الضحايا، وحلول الدمار والخراب في أغلبيّة المُدن والبلدات السُوريّة، بقي الرئيس السُوري بشّار الأسد في منصبه، ولوّ أنّه فقد السيطرة عمليًا على أجزاء من سوريا، وبات الحُضور العسكري الروسي والإيراني والأميركي والتركي مباشرًا في سوريا!.
وفي ليبيا، وعلى الرغم من إطاحة حُكم الرئيس مُعمّر القذافي وقتله(2)، لم تنجح الإنتفاضة الشعبيّة في نقل البلاد إلى آفاق الدول الديمقراطيّة المُتقدّمة، نتيجة الإنقسام العشائري الداخلي، وبفعل التدخلات الإقليميّة والدوليّة التي لا تُعدّ ولا تُحصى في الشأن الليبي. وخلال الأيّام القليلة الماضية، إنفجر الوضع الأمني مُجدّدًا في ليبيا نتيجة هُجوم مُباغت شنّته قوّات القيادي خليفة حفتر في إتجاه العاصمة الليبيّة والمناطق المُحيطة، في تصعيد لافت ضُدّ الحُكومة الليبيّة المُعترف بها دَوليًا. إشارة إلى أنّ الأمم المُتحدة بقيادة أمينها العام أنطونيو غوتيريش تُحاول منذ مدّة التوصّل إلى حلّ سلمي للإنقسامات المُستمرّة في ليبيا، لكنّ جُهودها المُتتالية وكذلك جُهود مبعوثها الخاص إلى ليبيا الوزير اللبناني السابق غسّان سلامة، باءت كلّها بالفشل-أقلّه حتى تاريخه. وتبعًا لنتائج المعارك الدائرة حاليًا، على الأرجح أنّ موازين القوى القائمة على طاولة المُفاوضات، ستتبدّل بشكل كبير، مع ما يعنيه هذا الأمر من تحوّلات سياسيّة حتميّة.
بالإنتقال إلى السودان، تستمرّ حاليًا التظاهرات الشعبيّة الغاضبة والمُطالبة بتغيير الحُكم، أمام مقرّ القيادة العامة للجيش في الخرطوم، وفي أماكن أخرى من البلاد، وتقوم قوى الأمن ووحدات مُكافحة الشغب وأخرى من جهاز الإستخبارات، بالعمل على فضّ هذه التحركات بالقُوّة. ولا يزال الرئيس السُوداني عُمر البشير الذي كان وصل إلى السُلطة بانقلاب في العام 1989(3)، مُصرًّا على رفض الإستقالة، علمًا أنّه مطلوب دَوليًا بتهم قضائيّة مُختلفة. ومن غير الواضح حتى الساعة، ماذا ستكون عليه تداعيات رفض البشير التخلّي عن السُلطة، وما إذا كان الجيش سيُواصل دعمه، أم أنه سينقلب عليه، في ظلّ وُجود إحتمال ثالث يتمثّل في إنقسام السودان وفي دخوله مُجدّدًا في أتون الحروب.
أمّا في الجزائر، فقد فجّر قرار الرئيس عبد العزيز بو تفليقة الترشّح لولاية خامسة(4) غضبًا شعبيًا واسعًا إنطلق إعتبارًا من 22 شباط الماضي، ما أجبر الأخير على التراجع ومن ثم على تقديم إستقالته في الثاني من نيسان الحالي. وقد تحرّك الجيش سريعًا لإزالة الشُكوك الشعبيّة من إحتمال إلتفاف بوتفليقة ونظام حكمه على المطالب الداعية إلى تنحّيه نهائيًا، وإلى عدم توريث السُلطة من جانبه لأي شخص. وبالتزامن مع قرار البرلمان الجزائري تعيين رئيس مجلس الأمّة عبد القادر بن صالح رئيسًا مُوَقّتًا للجزائر، تُحاول قيادة الجيش الجزائري تأمين إنتقال سلمي للسُلطة في الجزائر، ومنع إنجراف الأمور نحو أي أعمال عُنف داخليّة، علمًا أنّ الفريق المُؤيّد للمطالب الشعبيّة داخل المؤسّسة العسكريّة بات اليوم أكبر وأقوى من الفريق الذي كان يدعم حُكم عبد العزيز، والذي يضمّ خُصوصًا جهاز الإستخبارات. ويُمكن القول إنّ الأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة حاسمة، لجهة تأمين إنتقال هادئ للحُكم في الجزائر من عدمه.
في الخُلاصة، الأكيد أنّ الأنظمة الحاكمة في المنطقة هي دكتاتورية وبوليسيّة وبعضها إرهابيّ، والأكيد أنّ حقّ الشعوب العربيّة بالحريّة والديمقراطيّة والإزدهار هو مطلب مُحقّ، لكنّ المُشكلة أنّ تشبّث الدكتاتوريّين العرب بمناصبهم، وكثرة التدخّلات الأمنيّة والسياسيّة وحتى العسكريّة من جانب دول المنطقة ومن بعض دول القرار في العالم، أسفر عن إنحراف الإنتفاضات الشعبيّة عن أهدافها، وتسبّب بحروب مُدمّرة زادت من مآسي الشعوب العربيّة. وما يحصل حاليًا في كل من ليبيا، والسودان، والجزائر، يُنذر بموجة جديدة من الإضرابات الأمنيّة، ما لم يتمّ تداركه سريعًا قبل توسّعه وإنفلاشه. والأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة كفيلة بالإشارة إلى الإتجاه الذي ستسلكه المنطقة العربيّة ككل، وخاصة في كل من ليبيا والسودان والجزائر.