كشفت حملة الانتخابات الصهيونية لانتخاب كنيست جديد، قبل انتهاء مدة ولايته بـ 7 اشهر، مدى استعار التشدّد والتطرف والتنافس بين الأحزاب الصهيونية على إطلاق المواقف والوعود للناخبين الصهاينة، باعتماد سياسات عدائية ضدّ العرب وحقوقهم في أرضهم، إنْ كان لناحية سلب حقوقهم التاريخية المشروعة في فلسطين المحتلة، أو لناحية العمل على تهويد الجولان السوري المحتلّ، أو تكريس احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر من جنوب لبنان.. فبعد أن تمّ حصول رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو على اعتراف دونالد ترامب بضمّ كيان العدو للجولان المحتلّ، عشية إجراء الانتخابات، مضيفاً بذلك هدية جديدة لنتنياهو بعد هديته الأولى التي تجسّدت بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة والاعتراف بها عاصمة موحدة للدولة الصهيونية اليهودية العنصرية، أعلن نتنياهو قبل ساعات من بدء عمليات الاقتراع عن عزمه، إذا ما فاز في الانتخابات، على ضمّ المستوطنات الصهيونية الكبيرة والصغيرة، التي زرعت في الضفة الغربية المحتلة، والتي تحتلّ مساحة 60 بالمئة منها، إلى كيانه الاحتلالي، وهو ما أعاد التأكيد عليه، أثر انتهاء الانتخابات، النائب عن حزب الليكود يسرائيل كاتس «انّ الحكومة الإسرائيلية القادمة ستقوم بضمّ الضفة الغربية إلى إسرائيل»..
هذا الموقف الصهيوني العدواني المتشدّد والمتطرف، لا يقتصر على قيادات حزب الليكود فقط، وإنما يشمل أيضاً تحالف «أزرق أبيض» المشكل من جنرالات سابقين في جيش الاحتلال بقيادة غانتس، الذي أعلن نفس المواقف والوعود لناحية تكريس تهويد القدس والجولان والضفة وإلغاء حق العودة لأبناء الشعب الفسطيني إلى أرضهم في فلسطين المحتلة عام 1948 وعام 1967.. ويبدو واضحاً أنّ هذا التصاعد في السباق بين الأحزاب الصهيونية على إطلاق المواقف المتطرفة والعدوانية للاستيلاء على المزيد من الحقوق العربية، في مشهد انتخابي يشبه حفلات المزاد العلني، يؤشر إلى أنّ مجتمع المستوطنين الصهاينة إنما هو مجتمع يؤيد ويدعم وصول المتطرفين إلى الكنيست واستطراداً إلى سدة الحكم في كيان العدو…
لكن لماذا بات هذا الخطاب الصهيوني هو المسيطر والسائد في الكيان الصهيوني، في حين غاب نهائياً الخطاب الذي كان يطرح في البرامج ويدعو إلى التسوية للصراع العربي الصهيوني على أساس حلّ الدولتين.. واندثرت أو تلاشت، أو ضعفت الأحزاب التي كان تتبنى مثل هذا الطرح؟ واستطراداً ما هي النتائج التي يمكن استخلاصها من الانتخابات التي جرت في الأمس داخل كيان العدو؟
أولاً: لقد برهنت العقود الماضية من الصراع العربي الصهيوني أنّ الاتجاه الأشدّ تطرفاً في كيان العدو المحتلّ، تزامن صعوده وساد وأصبح مسيطراً على الحياة السياسية وفي المجتمع الصهيوني، مع سيادة منطق وخيار المراهنة على تحقيق التسوية السياسية مع هذا العدو، في الساحتين العربية والفلسطينية، وتحوّله إلى خيار استراتيجي، تجسّد في توقيع اتفاقيات صلح مع الحكومات الصهيونية اعترفت بوجود كيان الاحتلال، محققة له ما يصبو إليه من إضفاء الشرعية على وجوده الاغتصابي لأرض فلسطين العربية المحتلة، بدءاً من اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات مع رئيس وزراء العدو مناحيم بغين، ومروراً بتوقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة العدو برئاسة إسحق رابين عام 1993… وانتهاء بتوقيع اتفاقية وادي عربة بين رابين ورئيس الوزراء الأردني عبد السلام المجالي عام 1994.. لقد أدّت هذه الاتفاقيات إلى حصول القادة الصهاينة على ما أرادوا من دون أن يتخلوا أو يتراجعوا عن مخططهم الاستعماري الاستيطاني التوسعي في الأراضي العربية المحتلة في فلسطين والجولان وجنوب لبنان.. فهم نالوا الاعتراف باحتلالهم للأرض الفلسطينية التي احتلوها عام 48، وتفكيك المقاطعة الرسمية العربية للكيان الصهيوني، واستفادوا جيداً من الاتفاقيات المذكورة لإنهاء مقاطعة دول عدم الانحياز لكيان «الاسرائيلي»، وإقامة العلاقات الدبلوماسية معها، ما أدّى الى خسارة العرب التأييد والتضامن الدولي الكبير الذي كانوا يحظون به دعماً لنضالهم المشروع لتحرير أرضهم المحتلة.. حتى أنّ كيان الاحتلال نجح، بالاستناد إلى مثل هذه المكتسبات، وحصل على إلغاء قرار أممي يساوي بين الصهيونية والعنصرية.. واليوم تستمرّ بعض الحكومات العربية بمواصلة نهج الانفتاح على الكيان الصهيوني، على الرغم من ازدياد التطرف والتشدّد والعدوان الصهيوني على الحقوق العربية، وإقفال الأبواب أمام إمكانية تسوية سياسية، توهّموا أنها سوف تتحقق إذا ما جنحوا نحو التفاوض العدو، وسلموا بوجوده، وكان آخر مسلسل الانفتاح الرسمي العربي استقبال نتنياهو وبعض الوزراء الصهاينة في عدد من العواصم العربية، إلى جانب عقد لقاءات علنية معهم في العديد من المؤتمرات، حتى انّ بعض المسؤولين في الحكومات العربية وصف كيان العدو بـ «القطر الشقيق» فيما دعا وزير الخارجية العُماني إلى طمأنة «إسرائيل».. ما يؤشر إلى إمعان في نهج التخاذل والمساومة، المسؤول عن تشجيع القادة الصهاينة ومجتمع المستوطنين على التوغل في تطرفهم واحتلالهم وسرقتهم للأرض والحقوق العربية. ولسان حالهم يقول.. طالما أنّ الحكام العرب يقدّمون لنا التنازلات بدون حساب، فلماذا نتراجع أمامهم.. بل لماذا لا نستغلّ ذلك لتكريس الأمر الواقع الاحتلالي على كلّ الأرض التي نحتلها؟ وطبعاً السيد الأميركي، الذي يقف وراء دفع هذه الحكومات العربية، التابعة له، لتقديم المزيد من الهدايا لكيان الاحتلال، وجد الفرصة مواتية ليقدم هو أيضاً الهدايا لرئيس حكومة العدو نتنياهو، عبر الاعتراف بالسيادة الصهيونية على الجولان المحتلّ والقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني.. وأخيراً بتصنيف حرس الثورة الإسلامية الايرانية، «منظمة إرهابية»…
ثانياً: انّ الانتخابات الصهيونية جاءت لتؤكد جملة من النتائج التي لها دلالاتها…
النتيجة الأولى: تأكيد جديد على سقوط أوهام المراهنين على جنوح كيان العدو نحو التسوية، وما سمّي بحلّ الدولتين، إذا ما قدّمت له التنازلات وتمّ الاعتراف به، وفكّ المقاطعة عنه.. بل على العكس أنّ هذا الخيار أدّى تشجيع قادة العدو على التمادي في احتلالهم وتعنّتهم وسعيهم إلى تصفية القضية الفلسطينية وتكريس احتلالهم للأراضي العربية التي يحتلونها…
النتيجة الثانية: إنّ الولايات المتحدة ليست على الحياد في الصراع العربي الصهيوني، وإنما هي تقف مع كيان العدو وتدعمه وتؤيده وتساعده على تحقيق أطماعه ومخططاته الاستعمارية الاستيطانية، وتوفر له كلّ أسباب القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية باعتباره القاعدة الاستعمارية المتقدّمة لها في الوطن العربي…
النتيجة الثالثة: إنّ الكيان الصهيوني أصبح شبه موحد حول انتهاج خطاب التشدّد والتطرف.. والأمر لا يقتصر على الأحزاب الصهيونية اليمينية التي باتت تسيطر على الكنيست، بل وأيضاً المجتمع الصهيوني الذي يدعم ويصوّت لبرامج هذه الأحزاب…
النتيجة الرابعة: إنّ الحكومات العربية التابعة لواشنطن هي الأخرى جزء من الاستراتيجية الأميركية الصهيونية، فهي تدعم كيان العدو وتعمل لتمرير صفقة القرن الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية..
النتيجة الخامسة: يتأكد بشكل قاطع أن لا خيار أمام العرب المتمسكين بحقوقهم سوى المقاومة الشعبية المسلحة لاستعادة هذه الحقوق، وهو الخيار الذي ثبت صحته في جنوب لبنان، وقطاع غزة، وفي العراق وسورية، وقبل ذلك في الجزائر وفيتنام إلخ…