يرتكز الدستور اللبناني في مقدمته على جعل اللبنانيين متساوين في الحقوق الواجبات ، ويرتكز الخطاب السياسي في تناول مكافحة الفساد على تساؤلات تطال دور القضاء ، تحت شعار أن الإتهام والملاحقة مسؤولية القضاء ، ولدى التدقيق في هيكلية عمل نظامنا السياسي والقضائي سنكتشف أن جدارا إسمنتيا قد تم بناؤه بواسطة القانون يمنع المساواة التي نشدها الدستور ويحول دون الملاحقة التي أنيطت بالقضاء .
ببساطة يمكن للقضاء إستدعاء رئيس أكبر حزب في لبنان للتحقيق معه ، أو الإطلاع على إفادته ، والطلب إلى صاحب أهم شركة أو مصرف أو مسؤؤسة إقتصادية ، أو رئيس تحرير أهم الصحف أو مدير أكبر محطات التلفزة ، الحضور لسماعه أو إستجوابه في أي شأن أو شكوى ، وبدون شكوى ، ما لم يكن موظفا يجب نيل الإذن من الوزير المسؤول عن وزارته قبل إستدعائه ، أو نائبا يجب رفع الحصانة عنه بموافقة أغلبية مجلس النواب قبل دعوته لسماع شهادته إلا في حال الجرم المشهود ، أو وزيرا أو رئيسا يجب إحالة ملفه إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والرؤساء إذا كان متهما ، وطي طلب شهادته إذا كان مطلوبا منه ان يشهد أو يدلي بإفادة ، وتمتد لائحة الإستثناءات ، إذا كان محاميا أو طبيبا أو مهندسا ، وجب طلب إذن نقابته ، فتسقط السلطة المطلقة للقضاء في البت في شؤون العدالة ، المنصوص عليها نظريا ، وتسقط المساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات ، التي نص عليها الدستور .
الأمر ليس مجرد دعوة رومانسية لإحقاق المساواة ، ولا لتكريس مساحة سلطة القضاء وصلاحياته ، بل تساؤل منطلق من جدوى الحديث عن مكافحة الفساد وجديته في ظل الحصانات المعقدة التي تقيد أي حديث عن مساءلة أو ملاحقة أو حتى سماع إفادة وشهادة .
ليس من سبب لإنكار الحاجة لبعض الحصانات ، لكن بشروط معقدة لنيلها ، وليس لرفعها كما هو الحال المقلوب رأسا على عقب عندنا ، فمن الجائز أن يجتهد الوزير ويرى في إفصاح موظف عن معلومات حساسة في وزارته تسنى له الإطلاع عليها بحكم وظيفته إضرارا بمصلحة الدولة أو سمعتها ، فيطلب منحه الحصانة اللازمة لمدة معينة وفي مواضيع معينة ، إذا تم إستدعاؤه للمثول أمام القضاء ، كمثل حال تولي هذا الموظف مسؤولية في إحدى لجان المناقصات أو وضع دفاتر شروط ، أو لجان فاحصة للمتقدمين طلبا للوظائف ، فيلجأ الوزير إلى مجلس الوزراء فور تلقي الموظف الطلب ، ويحق للوزير فورا تجميد الإستدعاء ريثما يبت مجلس الوزراء بمنح الحصانة ومدتها وموضوعها وشروطها ، أما أن يكون على القضاء سلفا طلب الإذن من الوزير لمجرد طلب سماع أحد الموظفين ويكون للوزير حق تعسفي برفض منح الإذن فتلك بدعة غريبة عجيبة لا تجد تفسيرا في منطق بناء الدول .
من الطبيعي أيضا أن يتضمن النظام القانوني ، التحسب لسوء إستخدام السلطة التنفيذية لبعض أجهزة النيابات العامة ، بإستدعاء النواب لممارسة الضغوط عليهم ، وخصوصا المعارضين منهم ، ومنعهم أو مساومتهم على الإمتناع عن إثارة قضايا معينة أو ملاحقة ملفات معينة ، وأن توضع شروط تمنح بموجبها الحصانة للنائب ، لكن الغريب أن تكون الحصانة مطلقة ، وشاملة طيلة فترة النيابة ، بينما يجب أن يتم العكس فيكون النائب متاحا للقضاء والمثول امامه ، وبالمقابل يمكن ببساطة أن يتم تعليق اي مثول للنائب أمام القضاء بطلب من رئيس المجلس إذا تلقى إشعارا من اي نائب يإستدعائه مرفقا بطلبه نيل الحصانة نظرا لشبهة الأسباب السياسية وراء هذه الدعوة ، وتتثبت الحصانة تلقائيا بمجرد تقدم ثلث نواب المجلس بعريضة نيابية لرئيس المجلس تؤكد وجود أسباب سياسية وراء الدعوة القضائية ، فيبت بها مكتب المجلس ويمنح على اساسها الحصانة .
كذلك فيما يخص الرؤساء والوزراء ، فالمجلس الأعلى للمحاكمة فيما عدا قضية الخيانة العظمى ، يجب أن يكون مشروط بالقضايا التي يقرر وضع يده عليها ، ويمكن للرئيس أو الوزير المعني بأي مراجعة قضائية طلب نقلها إلى المجلس الأعلى الذي يعود له القرار ، اما أن تكون اي ملاحقة بحق وزير مستحيلة ما لم يتهمه ثلثا أعضاء مجلس النواب ، أمام المجلس الأعلى ، فهذا ما لا تعرفه بلدان العالم ، حيث نسمع عن كم من الرؤساء والوزراء تم التحقيق معهم ، وكم منهم أدين ، وكم منهم صدرت بحقه أحكام .
ومتى رفعت هذه الحصانات أوقيدت ، يسهل البت بسواها بذات المنطق والآلية .