اعتاد الكثير من اللبنانيين على تصنيف فهمهم للأزمات التي تعنيهم على قاعدة الانقسامات الوافدة إليهم من الخارج، ولم يسبق أن انتبهوا إلى ان معارضتهم لنموذج من السياسات التي يقول بها فريق دولي كبير لواحدة من الأزمات التي تعنيه، لا يعني بالضرورة تبنيه للسياسة المنافسة للفريق الدولي المقابل، أو أن تلاقيه مع الشق الذي يعنيه من رؤية وطرح فريق دولي كبير للأزمات التي تعنيه لا يعني انخراطه في معركة شاملة عنوانها وضع هذه الرؤى بكليتها وشموليتها موضع التنفيذ، وتحوّله شريكاً في حلف دولي مقابل حلف دولي آخر.
الأكيد أن لبنان ليس بحجم يرجح كفة معسكر دولي بوجه معسكر آخر، وان تموضعه بالتالي في أي معسكر دولي مقابل خصومه يربط مصيره بمصير مواجهة قد يكون ساحتها أو وقودها، أو ثمن التسويات حولها، ولذلك كما ان لبنان لا يستطيع الوقوف في أي خندق دولي في مواجهة خندق آخر، حتى لو كانت لهذا الخندق مواقف ورؤى تتقارب مع تحقيق المصلحة اللبنانية، فإن لبنان بالتأكيد يستحيل عليه الوقوف في خندق دولي يتبنّى حلولاً للأزمات التي تعني لبنان ورؤى لمقاربتها تتضارب مع المصلحة اللبنانية.
في قضية النازحين السوريين وعودتهم، يطرح الكثيرون من المؤثرين في المجتمع الدولي، والذين ترتبط بهم قضية عودة النازحين السوريين ربط هذه العودة بالحل السياسي الناجز للأزمة السورية، وهذا موقف تبلغه لبنان من واشنطن والعواصم الأوروبية والعربية والأمم المتحدة، وقبول لبنان بهذا الموقف يعني خرابه وتدفيعه فواتير لا يقدر على حمل أعبائها، وربما يوصله القبول إلى فتح شهية البعض على طرح مشاريع توطين النازحين السوريين وربما ايضاً اللاجئين الفلسطينيين.
يجد لبنان المنطلق من حسابات مصالحه المباشرة أنه قريب من الطرح الروسي للمبادرة القائمة على فك الارتباط بين هذه العودة والحل السياسي، وبمثل ما يدرك لبنان أن دعاة ربط العودة بالحل السياسي يريدون تحويل النازحين ومعاناتهم ومعاناة الدول التي تستضيفهم إلى إحدى أوراق الضغط لصالح شروطهم في الحل السياسي، فإن منطلقات دعاة فك الارتباط بين العودة والحل السياسي يريدون التملّص من هذه الضغوط لتحسين شروطهم في الحل السياسي. وهذا صراع لا يعني لبنان في مصالحه المباشرة.
نجح لبنان تدريجاً في تليين مواقف الكثير من دعاة ربط العودة بالحل السياسي، لفتح الفرصة لحل لبناني، يقوم على فصل عودة النازحين المقيمين في لبنان عن ملف النازحين بصورة عامة. وبالتالي فصل عودة هؤلاء النازحين المقيمين في لبنان عن الحل السياسي، كما يكاد أن ينجح في جعل القبول من المعسكر المقابل الداعي لفك العلاقة بين العودة والحل السياسي بتحويل عودة النازحين المقيمين في لبنان قبل الحل السياسي إلى شرط للسير بالحل السياسي، فتصير الصيغة الدولية المطروحة للحصول على إجماع المعسكرين، قائمة على أن عودة النازحين من لبنان شرط للحل السياسي والحل السياسي شرط لعودة سائر النازحين.
رسم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بثقة وذكاء هذه الاستراتيجية وها هي تتقدّم، ونحن نسمع مواقف جديدة من الفريقين الدولين المتقابلين بين دعاة الربط والفك لقضيتي العودة والحل السياسي تتيح الحديث عن فرصة لحل لبناني يلتقي عليه العالم.
هذا في السياسة شيء آخر غير النأي بالنفس، هو الثقة بالنفس، وهي شيء آخر غير الغرور، بقدر ما هي ثقة بصدق النية والخيارات النابعة من مصلحة وطن.