هي مفارقة لبنانية تتكرّر عند كلّ استحقاق، فيتحوّل "النصر"، ولو انعدمت مقوّماته الموضوعية، إلى "انتصار جماعيّ"، يحقّ لجميع الفرقاء، الاحتفال به، كلٌ على طريقته ولاعتباراته وحساباته الشخصيّة والخاصّة.
لم تشذّ انتخابات طرابلس الفرعية، بنسبة اقتراعها الهزيلة ونتيجتها المحسومة سلفاً، عن هذه القاعدة. بقدرة قادر، أعلن الجميع "انتصارهم" فيها من دون استثناء، من "تيار المستقبل" الذي فازت مرشحته بمقعدٍ بحدٍ أدنى من الأصوات، إلى حلفائه الذين لم ينجحوا في رفع نسبة التصويت، وصولاً إلى المجتمع المدني المنقسم على نفسه، وإلى قوى "8 آذار" التي قاطعت، وسعت لتوظيف المزاج الشعبي لصالحها.
لكن، أبعد من كلّ الحسابات والتقديرات، هل يمكن الحديث فعلاً عن "فوزٍ" حقّقه أيّ من هؤلاء؟ وما هي معايير مثل هذا "النصر"؟ وهل تصل الدروس والعبر التي تمخّضت عنها الانتخابات، أم أنّ ما بعد 14 نيسان سيكون كما قبله، على جري العادة؟!.
فوز بطعم الخسارة؟!
لم يكن مُستغرَباً أن يعلن "تيار المستقبل" الانتصار في معركته النيابيّة الفرعيّة، بل أن تهدي المرشحة الفائزة ديما جمالي فوزها إلى رئيس الحكومة سعد الحريري، وأن يشكر الأخير أهالي مدينة طرابلس، الذين لا يتذكّرهم شأنه شأن غيره من القادة السياسيين إلا في مواسم الانتخابات، على ما سمّاه "الوفاء".
لم يكن مُستغرَباً أيضاً، أن لا يتوقف الحريري وغيره من المعنيّين في التيار "الأزرق" عند نسبة التصويت المخيّبة للآمال، والتي تخطّت 12 في المئة بقطع الأنفاس، من دون أن تنجح في الوصول إلى عتبة 13 في المئة، بل ذهاب بعض القياديّين في "تيار المستقبل" إلى إعطاء تبريراتٍ بالجملة، من وحي أنّ المعركة "الفرعية" لا تغري الناخبين، وأنّ المنافسة غابت، وما شابه ذلك.
لكن، بعيداً عن كل هذه التفسيرات والتبريرات التي لم تبدُ مقنعة، وافتقدت الواقعية المطلوبة، فإنّ الأكيد أنّ فوز "المستقبل" في هذه الانتخابات، وإن أتى مستحَقاً بفعل النظام الانتخابيّ الأكثريّ، جاء عملياً بطعم الخسارة، أقلّه مع السقوف العالية التي وضعها التيار "الأزرق" نفسه للمعركة، التي وصفها تارةً بأنّها "ردّ اعتبار" لرئيس الحكومة شخصياً، على خلفية قرار المجلس الدستوري إبطال نيابة جمالي، والذي صوّره "المستقبليّون" وكأنّه يستهدف الحريري شخصياً، واعتبرها تارةً أخرى مواجهة مصيرية ومفصليّة مباشرة مع "حزب الله"، على رغم أنّ المنافسين خلوا من أيّ مرشح محسوبٍ على الحزب أو مقرّب منه، بعيداً عن الإشاعات التي انتشرت في إطار "الحملات الانتخابية".
ولعلّ ما يعزّز "طعم الخسارة" للتيار الفائز في الانتخابات، يتمثّل في حجم التعبئة التي لجأ إليها قبل الانتخابات، من دون أن ينجح في رفع نسبة الاقتراع، التي سجّل البعض أنّها الأدنى على الإطلاق منذ انتخابات العام 1992 التي حصلت في ظلّ مقاطعة مسيحية عامة، وربما قبل ذلك. وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ "التيار الأزرق" لم ينجح في تأمين نسبة اقتراع تغسل ماء وجهه، على رغم تحالفه مع معظم خصومه من القوى والشخصيات الفاعلية في طرابلس، على غرار رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي والوزيرين السابقين محمد الصفدي وأشرف ريفي، وعلى رغم دخول رئيس الحكومة شخصياً على خط التحشيد والتعبئة، فضلاً عن الدور الذي لعبه الأمين العام للتيار أحمد الحريري الذي لم يدر الحملة الانتخابية بنفسه فحسب، بل كان "شبه مقيم" في طرابلس طيلة الشهر الماضي.
الخصوم هُزِموا أيضاً
انطلاقاً ممّا سبق، لا يبدو مبالَغاً به القول الذي راج في الساعات الأخيرة، عن أنّ جمالي فازت بالمقعد النيابي الشاغر في طرابلس، لكنّ رئيس الحكومة خسر عملياً، بلغة الأرقام والدلالات والمعاني، وهو ما تكفي نسبة الاقتراع الهزيلة لتأكيده، ولو فازت مرشحته بفارقٍ مُعتبَر يصل إلى آلاف الأصوات.
لكن، إذا كان خصوم الحريري حاولوا تصويره على أنّه "الخاسر الأكبر" من العملية الانتخابيّة برمّتها، فإنّ وضعهم لا يبدو أفضل حالاً، وفي مقدّم هؤلاء قوى "8 آذار"، التي يعتبر البعض أنّها تصرّفت بـ"ذكاء" عندما قرأت المزاج الشعبيّ الطرابلسيّ، فاختارت مقاطعة الانتخابات، لعلّها بذلك تستطيع أن تجيّر غياب الحماسة الانتخابية لصالحها، وهو ما يفسّر مثلاً عدم إعلان دعمها لأحد المرشحين الآخرين كتسجيل موقف على الأقلّ، على رغم أن ذلك كان أحد الخيارات المطروحة أمامها.
وإذا كان صحيحاً أنّ هذه القوى حاولت أن تستغلّ المزاج الشعبي وتوظّفه لصالحها، فإنّه لا يدفع إلى القول إنّها نجحت في ذلك، أولاً لأنّ القاصي والداني يدرك سلفاً أنّها جزءٌ من المنظومة السياسية الطرابلسية أصلاً، وبالتالي فهي تتحمّل مسؤولية أيضاً في وضع المدينة الهشّ، وثانياً لأنّ مقاطعتها لمعركة كانت هي من فرضتها، على طريقة "الهروب"، بدا إقراراً مسبقاً بالخسارة، خصوصاً في ظلّ النظام الأكثري، ولو غُلّف بالشعارات المبدئية.
ولم يكن الوضع أفضل على الإطلاق بالنسبة إلى المجتمع المدني الذي أخفق من جديد، وإلى حدّ بعيد، في الامتحان، وأظهر أنّه لم يستفد من دروس الانتخابات النيابية الأخيرة، فانقسم مجدّداً على نفسه، من دون أيّ تبريرٍ مقنع، لتتشتّت الأصوات بين أكثر من مرشّحٍ ادّعوا جميعاً الانتماء إليه، وغاب بعضهم عن الصورة بشكلٍ كامل، ما أوحى وكأنّ الهدف من ترشحهم كان التشويش على بعضهم، لا على مرشحة السلطة، بل إنّ الكارثة قد تكون في "تخوين" ممثلي المجتمع المدني لبعضهم بعضاً.
وإذا كان "تيار المستقبل" يتحمّل الوزر الأكبر من هزالة نسبة الاقتراع، فإنّ هذه النسبة توجّه رسالة سلبية أيضاً، وربما بوقعٍ أكبر، إلى المجتمع المدني، الذي لم يستطع حتى الآن أن يقنع الرأي العام بأنّه "بديلٌ" ممكن للطبقة السياسية الحالية، لأنّه إذا كان صحيحاً أنّ المقاطعين ممتعضون من الأداء السياسيّ العام، فإنّ الأكيد أنهم لم يجدوا في الطرف الآخر، وهو المجتمع المدني في هذه الحالة، أقلّه حتى الساعة، "بشائر" التغيير المنتظر والذي يعوَّل عليه، وهو ما يستدعي من الفئات المدنية مراجعة جدّية لأدائها، قبل فوات الأوان.
الخاسر الأكبر...
بعيداً عن الشعارات الرنّانة والخطابات الوجدانيّة، خسر الجميع في انتخابات طرابلس الفرعية. "تيار المستقبل" خسر بعدما عجز حتى في الوصول إلى نسبة الاقتراع التي كان يتوقعها الخبراء. المجتمع المدني خسر باستمرار حروبه الداخلية، وبعجزه عن طرح نفسه بديلاً.
نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وأشرف ريفي وغيرهم خسروا أيضاً، بعدما بدا تحالفهم قاصراً عن تحقيق المبتغى، وتحفيز الناس على الاقتراع، ولو "كرمى لعيونهم". فيصل كرامي وطه ناجي وسائر قيادات "8 آذار" خسروا أيضاً بعدم جرأتهم على المواجهة، وإن قالوا إنّ مقاطعتهم ردّ على "ظلمٍ دستوريّ" لحق بهم.
أما الخاسر الأكبر، فيبقى الشعب اللبناني، وشعب طرابلس خصوصاً، المدينة التي تعاني من الفقر والإهمال والتهميش، والتي وجّهت رسالة بالأمس إلى جميع الزعماء، وهي تدرك أنّها لن تُسمَع، وأنّ من سيسمعها سيتجاهلها، لتستمرّ الحياة وكأنّ شيئاً لم يكن...