حين بدأت التحذيرات ودُقَّ جرسُ الإنذار قبل أكثر من عام، انبرى رجال الطبقة السياسية وأحزابها والتي كانت غارقة في حملاتها الانتخابية، الى رفض هذا الكلام ومهاجمة مطلقيه في اعتبار أنهم يريدون الإساءة للسلطة من خلال بثّ إشاعات وإخافة الناس.
يومها رجال السلطة إياهم وافقوا على سلسلة رتب ورواتب غير مدروسة وذهبوا الى استثمار «إنجازهم» انتخابياً، ومن ثم ألحقوا ذلك بتوظيفات عشوائية فاقت الـ 15 ألفاً لغايات انتخابية. واستكملوا ذلك بانتخابات ادّت الى ايصال متموّلين ومحازبين لا يتمتعون بالكفاية المطلوبة، بل بالتبعية، الى مجلس النواب، ما عطّل الدور الاساسي المطلوب من المجلس النيابي في المراقبة والمحاسبة. ووفق ذلك كان لا بد للانهيار من أن يحصل بسرعة.
في الواقع لا حاجة للتكرار أنّ الهوّة باتت سحيقة بين الناس والسلطة السياسية بمختلف اطيافها، ونسبة المشاركة في انتخابات طرابلس الفرعية على رغم من الضغط الذي حصل كان ابرز دليل.
لم ينتقل تيار «المستقبل» بكل قياداته الى طرابلس فقط، ولم تكتفِ الماكينات الانتخابية لمختلف قوى طرابلس بالسعي لتحشيد المقترعين، بل تمّ «قطعُ أنفاس» ايّ حادثة قد تؤثر على عزيمة الناس. فمثلاً اكتشف الجيش اللبناني مخزن المتفجرات صباح يوم الجمعة الذي يسبق يوم الانتخاب.
ولكي لا يؤثر هذا الاكتشاف سلباً على الطرابلسيين، تم وضع المخزن تحت الرقابة الصارمة، ولم يُدهَم الّا ليل الاحد بعد اقفال صناديق الاقتراع. وعلى رغم ذلك كانت تعليقات الناس على عدم المشاركة واضحة وصريحة. وطرابلس عيّنة عن كل لبنان في وجه قوى الطبقة السياسية.
ولكنّ السلطة مأزومة، فالانهيار وشيك والخزينة فارغة. لكن المشكلة انّ السلطة السياسية الحاكمة المصبوغة بالفساد وأنّ أولويتها المطلقة تنحصر بمصالحها الذاتية على حساب المصلحة العامة، وهو ما ادى الى فقدان ثقة اللبنانيين بها، هذه السلطة غير قادرة على أخذ الناس في اتجاه اجراءات تقشّفية صعبة. لذلك تحرك الشارع وسيستمر وفق وتيرة تصاعدية. فالمحظور وقع.
وما زاد في الطين بلّة انّ القوى السياسية الاساسية تعيش أزمات كبيرة، ما يضفي سبباً أساسياً للضياع الحاصل. فـ«حزب الله» يعيش أزمة العقوبات والوضع الإقليمي الدقيق. والرئيس سعد الحريري مطوّق بأزمته المالية القاسية والتي تزداد حدةً كلما تقدمنا في الوقت، ما ينعكس على وضعه الشعبي.
والوزير جبران باسيل يعش أزمة فشله في ترجمة توسيع نفوذه داخل السلطة وادارات الدولة لمصلحة رصيده في معركته لرئاسة الجمهورية.
ووليد جنبلاط غارق في أزمة توريثه السياسي في ظل عدم رغبة تيمور المتصاعدة وشبه استحالة استبداله بشقيقته.
أما سمير جعجع فيعيش أزمة عجزه عن ترجمة تعزيز موقعه مسيحياً الى أن يكون حاضراً على مستوى المعادلة اللبنانية العريضة.
هي إذاً مجموعة أزمات ومأزومين لا يمكن أن تصنع حلولاً لتحديات في حجم إنقاذ البلاد من الإفلاس.
وبدا انّ التحذيرات السابقة بعدم الاقتراب من الشارع أو استخدامه تبدّدت كلها مع الكشف عن اجراءات التقشف الصعبة والتي طاولت رواتب القطاع العام بما فيها المؤسسة العسكرية. ومعه ستتصاعد التحركات والتظاهرات والاعتصامات وستصل الى ذروتها في عيد العمال في الاول من أيار المقبل وستشمل كل المناطق دون استثناء.
وتشير التقديرات الى أنّ شهر أيار سيكون قاسياً على هذا الصعيد. وبحسب التوقعات فإنّ الضغط «الشارعي» سيلزم المعنيين بـ«ابتكار» حلول تتّسم بالمسؤولية، وهو ما قد يأخذ بضعة أسابيع يكون خلالها الشارع سيّدَ الموقف.
ومن الحلول الجاري البحث فيها لكي تكون بديلاً مقبولاً، إعلان حال الطوارئ المالية على موازنات كافة الوزارات، ولا سيما منها تلك المعروفة بدسامتها. وبالتالي تجميد غالبية المشاريع فيها لمدة سنتين أو ثلاث وبالتالي خفض موازناتها بنحوٍ يتلاءم وحال الطوارى المالية.
ولكن هذا الاقتراح يشهد معارضة واسعة لدى الوزراء، اضافة الى اعادة النظر في الرواتب العالية للموظفين الكبار وهي كثيرة، وحسم ما دون العشرة في المئة من رواتب موظفي القطاع العام شرط أن تكون بمثابة دين من الموظفين لمصلحة الدولة تتمّ استعادته مع فوائده بعد سنتين أو ثلاث سنوات.
وفي المقابل اندفع البعض في اقتراح إمرار ما اتُفق عليه في مؤتمر «سيدر» (15% TVA، خمسة آلاف ليرة على البنزين) وعلى اساس تجنيب موظفي القطاع العام خفض رواتبهم وانّ الظرف يساعد على ذلك.
لكن هنالك مَن يعارض هذا الاقتراح لأنه سيؤدي الى مزيد من الانكماش في الحركة الاقتصادية المنكمشة اصلاً، وبالتالي القضاء على ايّ أمل في استعادة دورات الحركة الاقتصادية مستقبلاً. ما يعني انّ هذه الاجراءات يجب أن تترافق مع تحسّن الوضع الاقتصادي لا العكس.