كشفت التنقيبات الجديدة في موقع "الفرير" الأثري في صيدا القديمة، على بعد نحو 100 م. من القلعة البرية الصليبية، في عامها الحادي عشر على التوالي، عن وجود بقايا 25 هيكلا عظميا، وأنهم جنود صليبيون قتلوا خلال معركة في القرن الثالث عشر.
وتمكن فريق من الباحثين من معهد "ويلكوم سانجر" بريطانيا" من استخلاص الجينوم الكامل من الحمض النووي لتسعة بقايا هياكل عظميّة، وتحليل بصمتهم الوراثية بمقارنتها بآلاف العينات من جميع أنحاء العالم، فاكتشفوا أن 3 من الجنود التسعة كانوا اوروبيين، 4 كانوا لبنانيين و2 كانا خليطا من الاوروبيين والسكان المحليين.
وقد أكدت رئيسة بعثة المتحف البريطاني المشرفة على اعمال التنقيب في موقع الفرير الأثري في صيدا الدكتورة كلود ضومط سرحال لـ"النشرة"، هذه الاكتشافات، معتبرة انها "سابقة علمية جديدة"، حيث تمكن العلماء من إستخراج ودراسة الحمض النووي من تسعة جنود صليبيين قتلوا خلال معركة في صيدا في جنوب لبنان في القرن الثالث عشر، ذلك ان التاريخ يخبرنا عن الكثير للحروب الصليبية، وعن سلسلة الحروب الدينيّة بين القرن الحادي عشر والثالث عشر (1095-1291) التي حاول فيها الاوروبيون السيطرة على الشرق الأوسط.
وقالت، من خلال الحمض النووي يشرح العلماء من كان الصليبيون وكيف تفاعلوا مع السكان المحليين في بحث تم نشره في المجلة الأميركية لعلم الوراثة البشريّة هذا الاسبوع في 18 نيسان 2019، فيما تشير نتائج التحاليل أن الجنود في الجيوش الصليبية كانوا ينحدرون من عدة بلدان أوروبيّة كاسبانيا وسردينيا، ولكنهم استعانوا أيضاً بالسكان المحليين في حروبهم كما أنهم تزوجوا من سكان المناطق التي تواجدوا فيها واولادهم المختلطين شاركوا أيضاً في المعارك. ولكن تأثير الصليبيين على جينات السكان المحليين بقي محدوداً جداً، إذ مثلاً يشبه اللبنانيون الحاليّون الشعوب التي عاشت في لبنان منذ ألفي عام وأكثر. كما تسلط النتائج الضوء على الدور الهام الذي يمكن أن يلعبه الحمض النووي في مساعدتنا على فهم الأحداث التاريخية وأصول الشعوب.
واذ شددت على ان الاكتشافات "تعطي نتائجنا رؤية غير مسبوقة للاحداث التاريخية التي حصلت خلال القرون الوسطى، بما فيها أصول الأشخاص الذين عاشوا في لبنان خلال هذه الفترة، والذي تبين التنوع الديموغرافي الإستثنائي حيث عاش الاوروبيون واللبنانيون واولادهم المختلطين جنبًا إلى جنب شاركوا جميعاً في الحروب الصليبية".
وختمت بالقول "لقد سعدت باكتشاف الهويات الوراثية للأشخاص الذين عاشوا في لبنان خلال الحروب الصليبية. منذ خمس سنوات فقط، لم تكن الدراسات من هذا القبيل ممكنة. إن توحيد علماء الآثار وعلماء الوراثة يخلق فرصة رائعة لتفسير الأحداث المهمة عبر التاريخ.
الدكتور مارك الهبر
ويقول الباحث في علم الوراثة البشريّة في معهد "ويلكوم سانجر" البريطاني الدكتور مارك الهبر، والذي قاد البحث مع زميله كريس تايلر سميث وسرحال، ان بقايا الهياكل العظمية تعود لجنود صليبيين قتلوا بطريقة عنيفة خلال معركة في القرن الثالث عشر"، مضيفا انه "على مرّ التاريخ، أدّت الهجرات البشرية الضخمة للفتوحات العسكرية، مثل حركة المغول عبر آسيا بقيادة جنكيزخان أو وصول المستعمرين الاسبان إلى أميركا الجنوبية، إلى تغييرات وراثية كبيرة عند سكان تلك المناطق. لكن الباحثين هنا يشيرون إلى أن تأثير الصليبيين كان محدوداً وقصير الأمد، فبالرغم من أن الاختلاط قد حصل، فإن العلامة الوراثية للصليبيين في الحمض النووي الجسمي قد تبددت وغير موجودة في أيّ مجموعة من سكان لبنان اليوم. فعندما قام الباحثون بتحليل الحمض النووي لأشخاص كانوا يعيشون قبل 2000 سنة في جبل موسى-قرنة الدير في لبنان، اكتشفوا أن اللبنانيين اليوم مطابقون وراثياً للبنانيين القدماء.
ويؤكد الدكتور الهبر، "إذا نظرنا إلى العلامات الوراثية للأشخاص الذين عاشوا قبل آلاف السنين في لبنان وقارنتها بالذين يعيشون اليوم، فسترى استمراريّة وراثيّة مذهلة غير موجودة في الكثير من الأماكن التي تمّت دراستها سابقاً".
ويوضح الهبر ان هذه النتائج تشير إلى أنه قد تكون هناك بعض الأحداث التاريخية الكبيرة الّتي لا تظهر في الحمض النووي للأشخاص الذين يعيشون اليوم، وهي بحاجة إلى الحمض النووي من بقايا أشخاص عاشوا قبل مئات أو الآف السنين لمعرفتها. وإذا كانت هذه الأحداث غير موثّقة جيدًا بخلاف أحداث الحروب الصليبيّة، فقد لا نعرف عنها شيئا على الاطلاق. "تشير النتائج التي توصلنا إليها أنه من المفيد النظر إلى الحمض النووي للعيّنات القديمة من جميع الفترات التاريخية".
الباحث تايلر سميث
من جهته يرى الباحث تايلر سميث ان "تاريخ البشر قد يكون مليئا بهذه الأحداث الوراثيّة العابرة التي اختفت بدون أثر" وكان من المفاجئ أن يتمّ تحليل الحمض النووي لبقايا الصليبيين التسعة. وذلك لأنّه يتحلل بشكل سريع في المناخات الحارّة والرطبة مثل مناخ لبنان. كما تبين أيضا أنه تم حرق الجثث عند دفنها، مما صعّب مهمة الباحثين. لكن التطورات الحديثة في استخراج وتحليل الحمض النووي جعلت هذه الدراسة ممكنة. ويأمل الباحثون أن تصبح هذه الأنواع من الدراسات أكثر شيوعًا وتشمل تعاون بين علماء من مجالات مختلفة بالإضافة إلى مؤرخين.
موقع الفرير
تقع حفرية موقع الفرير على بعد نحو 100 م. من القلعة البريّة، وهو بموازاة أسوار وأبواب وحتى خندق العصور الوسطى للمدينة، وعلى مر السنوات اتّضحت تدريجياً بعض الميّزات المعزولة، والتي كان من الصعب تفسيرها في البداية خلال حملات التنقيب المتتالية، مما أدّى لفهم أفضل للنظم الدفاعّية لمدينة صيدا خلال العصور الوسطى ما بين القلعتين البريّة والبحرية.
وقد تمّ إكتشاف أبراج نصف دائرية تبعد عن بعضها البعض حوالي ٥٥م وكانت تحمي فيما مضى التحصينات، وأصبح بعد ذلك واضحاً أن تسلسل الطبقات العائدة إلى الفترة الصليبيّة في صيدا بالإضافة إلى أجزاء كبيرة من دفاعات القرون الوسطى في المدينة، كانت لا تزال قائمة في الجزء الجنوبي لحفرية الفرير.
تتكون واجهة الجدران الخارجية من أحجار رمليّة مربعة الشكل، يضاف عليها في بعض الأحيان أعمدة رومانية أعيد إستعمالها للتدعيم أو ربما كميزة زخرفيّة، وهذا النمط في العمارة يشبه كثيراً جدران القلعة البحريّة ومن المرجّح أن يكونا معاصران.
وتبيّن أنَ الدفاعات المكتشفة في حفريّة موقع الفرير قد بُنيت في مرحلة واحدة، مع عدم وجود مؤشرات ملحوظة لإصلاحات رئيسيّة أو تغييرات. كما تمّ الكشف عن اثنين من الجدران الدفاعيّة المُقَوّسَة والمتوازية، كانا قد بُنيا على الجانب الشرقي والغربي للخندق، مع وجود فجوة واسعة ما بين الجدران الداخلية والخارجيّة يبلغ قطرها من 12 إلى 15م. إستعمل لبناء هذه الجدران كتل من الأحجار الرمليّة المقطّعة بتأنٍّ، تحمل بعضها علامات الإزميل، وعلى إثنين منها علامات البناء والتي تشبه الصليب والخط المائل.
وتمّ تضييق الخندق عند هذه النقطة لإفساح المجال لبناء مدخل إلى المدينة بعرض 6-7م، ثلاثة أجزاء ناتئة حملت ما قد يكون بنية فوقيّة خشبيّة، على الأرجح قد يكون جسرا أو ممشى يمتد فوق الخندق الدفاعي، بينما أُلقيت في الحفرة هياكل عظمية لحيوانات صغيرة، بقايا خيليّات وخنازير، كما عُثر أيضاً على عملة معدنيّة برونزيّة تحت بقايا حصان حديث السن، بالإضافة إلى الهياكل العظميّة البشريّة.
هذا وتنطلق الحفرية في عامها الحادي والعشرين يوم 27 أيار 2019 بالتعاون مع المديريّة العامة للآثار وبرعاية شركة الترابة الوطنيّة، ترابة السبع ومؤسسة الحريري.