لفت البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، إلى "أنّنا نجتمع في صباح "سبت النور"، المعروف "بمكوث الربّ في مثوى الأموات"، "وبالنزول إلى الجحيم" حيث، كما كتب بطرس الرسول "بشّر الأنفس المحجوزة فيه" (1 بطرس 19:3). أمّا المفهوم اللاهوتي فهو الدخول في عمق الموت، هذه الهوّة الكائنة في عزلة الإنسان الداخلية، فيشعر بأنّه لوحده وبحاجة إلى آخرين"، مبيّنًا أنّه "في حالة خوف داخلي، لا يمكن التغلّب عليه بالعقل والإدراك، بل فقط بحضور شخص محبّ".
ونوّه في رسالة عيد الفصح، إلى أنّ "هذا الاختبار المرّ عاشه يسوع، فأطلق صرخته من على الصليب إلى أبيه، صرخة الوحشة والرّجاء: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مر 34:15). إنّها بداية صلاة المزمور 21:22 الّتي كان يطلقها شعب الله قديمًا في حالة الضّيق، إذ كان يظنّ أنّ الله تخلّى عنه. بهذه الصّرخة لاذ يسوع بأبيه وسط الشّعور بتخلّيه عنه وغيابه"، مؤكّدًا أنّ "كلّنا يُختبر، إنّما بدرجات متفاوتة. هذا الخوف الداخلي الّذي يبلغ ذروته في الخوف من الوحدة والشّعور بأنّ الله نفسه بعيد وغائب وصامت. هذا الخوف الكلّي يُسمّى "جحيمًا" أو "موتًا" بمعنى العبور إلى عزلة تحطّم كلّ رباط".
وذكر البطريرك الراعي أنّ "بنزوله إلى الجحيم"، اجتاز المسيح باب عزلتنا القصوى، ودخل من خلال آلامه في هوّة شعورنا بالتخلّي، حيث لا كلمة سواه يمكن أن تثلج قلبنا، فغلب الجحيم والموت وأسكن فيهما الحياة والمحبّة اللّتين من الله. بهذا المعنى كتب بولس الرسول: "لو لم يقم المسيح، لكنّا أشقى النّاس، ولما زلنا أمواتًا في خطايانا" (1كو17:15)".
وركّز على أنّ "يسوع المسيح القائم من الموت يبدّد كلّ خوف ويأس. ويريدنا أن نكون ذاك الآخر المحبّ الّذي يحتاجه الخائف والمضطرب. فالخائفون والمضطربون يتوجّهون إلى الكنيسة أمّهم، لتضيء نجمة في ظلمات حياتهم وتتكلّم باسمهم وتحمي حقوقهم، وتعبّر عن حاجاتهم وتطلعاتهم وتعطي صوتًا لمن لا صوت له. فلا يمكنها أن تصمت أو تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يتعرّض له أبناؤها وبناتها من اعتداءات. يلجأون إليها في كلّ مخاوفهم، لأنّهم فقدوا الثّقة بالجماعة السّياسيّة، وباتت الهوّة سحيقة بينهما".
وأوضح أنّ "الكنيسة تستطيع ذلك لأنّ المسيح القائم من الموت "نفخ فيها الرّوح القدس" (يو 22:20)، روح المحبّة والحقيقة، روح المشورة والشّجاعة، روح العطاء والتّفاني، روح الحضور والخدمة. هذا الروح دفع بأبرشيّاته ورهبانيّاته إلى إنشاء مؤسّسات تضيء دروب الإنسان: مدارس، مستشفيات، دور مسنّين، مياتم، مراكز ومدارس لذوي الاحتياجات الخاصة، مؤسّسات اجتماعيّة لخدمة المحبّة وسواها". وأشار إلى أنّ "كلّ هذه المؤسّسات تزرع الرّجاء في القلوب، وتنتزع منها الخوف، وتصمد بوجه الصّعوبات على أنواعها، وتحمل هموم الناس وتخفّف قدر مستطاعها من ثقل الأعباء التي يرزحون تحتها. إنّها تفعل ذلك لكي "لا تطفىء الرّوح" (1تسا 17:5)".
وأعلن الراعي أنّ "الكنيسة لا تنتظر مديحًا من بشر، بل تطالب الدّولة القيام بواجباتها تجاه الّذين تتحمّل أعباءهم الماليّة وهم في عهدة مؤسّسات الكنيسة. من ثمّ، من واجب الدولة دعم هذه المؤسّسات ومثيلاتها في لبنان، لأنّها ذات منفعة عامّة لكونها تساعد الدولة في القيام بمسؤوليّاتٍ تعود إليها، وهي عاجزة عن إنشاء مثلها وبمستواها العلميّ والصحيّ والتقنيّ والإداريّ والإنمائيّ. بهذا الدّعم تنخفض الأعباء الماليّة والأكلاف عن كاهل المواطنين الذين ينعمون بخدماتها".
كما أفاد بـ"أنّنا قد صلّينا ونصلّي لكي يفتح رجال السياسة والمسؤولون في الدولة قلوبهم ونفوسهم، بروح التوبة، لقبول الروح القدس الّذي يريد المسيح القائم من الموت أن يبثّه فيهم (راجع يو22:20)، فيخرجون من عتيق مسلكهم وتصرّفاتهم، ومن أسْرِ مصالحهم وحساباتهم وحصصهم وأفكارهم المسبقة، ومن حالة اللاثقة فيما بينهم، ويدخلون جديد القيامة ويجتهدون في درس المشاريع الإنمائيّة من كلّ جوانبها وعدم فرضها على المواطنين قسرًا، كما يجتهدون في رفع الظّلم والهموم والحرمان والجوع عن الشعب اللبناني الّذي يعبّر عن مطالبه بكلّ أسف بإضرابات ومظاهرات واعتصامات وقطع طرقات وحرق إطارات؛ تأتي بالضّرر على المواطنين ومصالح الدولة وسمعة لبنان".
ودعا إلى أن "نتذكّر، ونحن على عتبة الاحتفال بالمئويّة الأولى لإعلان دولة لبنان، كيف أنّ السياسة اللبنانية تمكّنت في النّصف الأوّل من تكوين دولة جعلت من لبنان "سويسرا الشرق" ومحطّ إعجاب العالم، إذ قوّى اقتصاده وأقرّ الحرّيات العامّة وعمّمها وحماها، وعزّز التعدديّة في الوحدة، وبنى صحافةً فاخر بها شعوب المنطقة. ولقد فعل ذلك، فيما كانت الدول المحيطة تتخبّط في انقلابات متتالية ونشوء أنظمة ديكتاتوريّة وقمعيّة وأحاديّة".
وبيّن الراعي أنّ "ابتداءً من منتصف السبعينيات، بعد ما جرى من حروب واحتلالات وهدم وتهجير وصولًا إلى تعديلات مؤتمر الطائف الجوهريّة في النظام السياسي الّذي أُسيء تطبيقه نصًّا وروحًا، وبعد نهاية الاحتلالات، لم تعرف الجماعة السياسية أو لم تشأ أن تبني دولةً عصرية تعود بلبنان إلى سابق عهده. وهيهاتِ أن يعود إذا ظلّ النهج السياسي إياه".
وشدّد على أنّ "لبنان قام، خلافًا لجميع دول المنطقة، على إحلال المواطنة السياسيّة محلّ المواطنة الدينيّة، كأساس للعيش المشترك المسيحي-الإسلامي. وهي ميزةٌ ناضل في سبيلها خادم الله البطريرك الياس الحويك في "مؤتمر فرساي" للسلام سنة 1919، وقال فيه مقولته الشهيرة: "طائفتي لبنان". وعلى أساسها قامت الدولة بمؤسّساتها وازدهرت. أمّا ما نشهده اليوم، بكلّ أسف، فهو إحلال المواطنة الدينيّة محلّ المواطنة السياسيّة، الظّاهر في الحكم المذهبيّ في الوزارات والإدارات العامة، بالإضافة إلى شبه دويلات طائفيّة ونفوذ حزبيّ في المناطق، وتدخّل سياسيّ في الإدارات العامة والتعيينات، حشوًا وزبائنيّة، وفي القضاء. بالإضافة إلى تجاوز بعض الأجهزة الأمنيّة صلاحيّاتها والقوانين حتّى التدخّل في ما هو من صلاحيّات الجهاز القضائي".
إلى ذلك، أكّد أنّ "كلّ هذه الأمور أضعفت الدولة وأفقدتها هيبتها، وفُكفكت تراتبيّة السلطات الدستورية واستقلاليّتها، وأدخلت الفساد الشامل، وبدّدت المال العام، وأوقعت البلاد في دائرة الخطر على المستوى الاقتصادي والعجز المالي وتنامي الدين العام. فلا بدّ من إصلاح سياسيّ أوّلًا على ضوء تجربة المئة سنة، وما جرى ويجري في بلدان المنطقة، والسّعي إلى إحلال نظام إقليميّ جديد يُعمّم السلام من حولنا، ويحدّ من أطماع القوى الكبرى، فلا تكون بلادنا مساحة لطموحاتها".
وركّز الراعي على أنّ "في سياق العمل على تنظيم عملية التقشّف، يجب أوّلًا إقفال أبواب الهدر العديدة، وجمع أموال الدولة من مرافقها ومرافئها والضّرائب والرّسوم، وضبط التّهريب والاستيراد غير المشروع، والتوجّه إلى الأغنياء والقادرين قبل مطالبة المواطنين الرّازحين أصلًا تحت أعبائهم الماليّة، منعًا لاتساع دائرة الفقر ولإذكاء ثورة الجياع".
ولفت أيضًا إلى أنّ "عمليّة التضامن المشكورة الّتي قام بها كثيرون من أفراد ودول وَسَخوا بمساهماتهم الماليّة من أجل إعادة بناء كاتدرائية نوتردام في باريس الّتي دمّرها الحريق الهائل في معظمها وهزّ مشاعر الدول والشعوب، واعتُبرت خسارة عالمية، تدفعنا للتّساؤل: ألا يستحقّ لبنان المهدّد إقتصاده وماليّته بالانهيار، أن يقوم المتموّلون الكبار من أبنائه المقيمين والمنتشرين بالتبرّع لصالح خزينته، تحنّبًا لانهيار هيكله على الجميع؟".
ورأى أنّ "فيما لبنان إلى استعادة الثقة به لدى الأسرة الدوليّة، يجب على السلطة السياسية أن تعمل بجدية وشفافيّة ومسؤوليّة على مواجهة أزماتنا الداخلية، والإسراع في إجراء الإصلاحات اللازمة"، مناشدًا جميع وسائل الإعلام ومستخدمي تقنيّاتها "الكفّ عن إظهار الوجه السلبي عندنا، ونشر الحقيقة الموضوعية، بعيدًا عن التّجنّي والكذب والمأجوريّة. فباستطاعة هذه الوسائل أن تكون اما أداة حرب أو أداة سلام".
وأشار إلى أنّ "الحاجة الأساسيّة لبدء عمليّة كلّ إصلاح، تبقى هي هي أن يفتح الجميع قلوبهم لقبول هبة الروح القدس الّتي يبثّها فيهم المسيح القائم من الموت، فيطلقهم في رحاب جديد القيامة. هذه هي تهانينا وتمنّياتنا بالفصح المجيد".