أسوأ ما يمرّ به البلد حالياً هو الحرب النفسية التي تُخاض من الداخل.
بدأت منذ فترة زمنية غير قصيرة هجمة إعلامية بزغت من كلّ حدب وصوب، موضوعها خطر الانهيار الاقتصادي.
اتّجهت معظم المكوّنات السياسيّة اللبنانية نحو مؤتمر "سيدر" كمخلّص لجذب التمويل خوفاً من سقوط البلد في أتون التعطيل.
لم يبقَ مسؤول حزبي وسياسي ومحلّل اقتصادي الا وتحدّث عن الوضع الاقتصادي غير المنبئ بالخير. صحيح أنّ لبنان يعاني من ضائقة تخنق أبناءه. ولكن، أين الثوّار؟
من المعلوم تاريخيا أن الثورات تولد من رحم الحرمان والظلم والاحزان. في لبنان، تمّ القضاء على الثورة قبل ان تولد بأسلحة تكتيكية اجتماعية أهمّها: الطائفيةالسياسية، حكم الأحزاب والديمقراطية التوافقية. فيما يلي بعض الصور:
أولاً- إنّ الدولة المدنيّة في خبر كان. الطائفية السياسيّة باتت بعد الحرب اللبنانيّة سنداً للاستقرار. نعم، هي كذلك، ولا يضحكنّ أحد على الناس بيافطات الشعارات.
فكل طائفة لها حصّتها باسم الدستور و"الميثاقية". والكلّ راضٍ فما من مغبون (مبدئياً). لن يثور أحد مطالبا بالاقتطاع من صلاحيّاته باسم الغاء الطائفيّة السياسيّة. فتبق حبرا على ورق في دستور الطائف وخطابا في المنابر العامة .
ثانياً- تقاسمت الأحزاب السياسيّة السلطة والنقابات والوظائف المقاعد النيابية والحقائب الوزارية والتحركات الطلابية ووسائل الإعلام، فباتت قوّتها (بحسب المفهوم السائد) تُستمدّ من عدد منتسبيها أكثر منه بعدد انجازاتها.
الشعب بمعظمه يتبع جهات حزبيّة منقسمة طائفيًّا، فقضت معظم الأحزاب بشكل أو بآخر على القرار الوحدوي الوطني. إنّ الحزبيين الذين التحقوا بحزب ما عن قناعة لن يتخذوا قرارات وطنيّة الا تنفيذا للقرار الحزبي. ضاعت حريّة الثوار.
ثالثاً- نصّ الدستور على فصل السلطات. الشعب مصدر السلطات. في المبدأ ان النظام الديمقراطي يسمح للشعب بتقرير المصير. خيضت حروب عالمية باسم الديمقراطية ليتبين انها نوع آخر من الاحتلالات. وكذلك في لبنان، رهاب العناوين يضرب بعض العقول السياسيّة ويُترجم استبدادا في الارض. نعم، استبداد في الأرض.
خوفا من تبدد الوحدة والاستقرار، لجأت الطبقة الحاكمة على مرّ سنوات الى ابتداع قوانين انتخابيّة وقرارات حكوميّة تضمن "حكم الجميع" و"الشراكة" باسم الديمقراطيّة التوافقيّة، ليتبيّن أنّ التوافق شكلي يقتصر على توزيع المناصب اكثر منه فاعلٌ يتّجه نحو بناء الدولة. قاطع نصف الشعب وأكثر الانتخابات النيابيّة لعدم إيمانه بعدالة القانون. فالمعارض بات هذا المواطن الذي يغرّد من صومعته بعيدا عن ضجيج التكتّلات الشعبيّة التي تحوّلت الى تكتلات سياسيّة.
بالمحصّلة، أين الثوار؟ الثورة الفكرية والثقافيّة يئس أهلها من الانحدار الاجتماعي الحاصل ولغة التخوين والاتهام، فاختار أكثرهم أسماء وهمية يثوروا عبرها في عالم الانترنت الافتراضي... الثورة المدنية تبدد أهلها بين خلافات النقابات والبلديات والجمعيّات والأحزاب والمرجعيات الدينيّة. ..
الثورة التخريبيّة قائمة بحرب باردة تفتك بالوطن من الداخل وكثر غافلون...
ان انتقل التخريب فعلا الى حرب ساخنة في الشارع لتحوّل فوضى أهليّة ومواجهات شعبيّة عسكريّة فيتورط الجميع من شعب ومقاومة وايضاً اللبناني، عماد استقرار البلد، بما لا تُحمَد عقباه؛ وهذا اخطر ما قد يصيب لبنان .
البلد الْيَوْمَ بحاجة لمؤتمر وطني جامع، أول ما يُبحَث فيه هو استراتيجيّة دفاعيّة وطنيّة ابعد من عسكريّة الى تلك الفكريّة التحصينيّة القادرة على تفكيك ومواجهة الأسلحة الباردة، خاصة تلك التي تستخدم عناوين ساخنة مبهرة ممتهنة تحوير مساراتها، كعنوانَي انهيار الاقتصاد ومكافحة الفساد.
لا ضرَر في ثورة الأحزاب والمستقلّين والشعب بكل مكوّناته على منظومة ومفهوم الدولة ولكن، أين الثوار؟!.