سألني صديقٌ مخضرم، متابع للأوضاع اللبنانية والأقليمية، ويقرأ بانتظام هذه الصفحة منذ كانت ورقية وأونلاين وأصبحت أونلاين فقط: ما هو السقف الذي ستبلغونه في كتاباتكم؟ إن نصف ما تكتبون كان من شأنه أن يُسقِط حكومات، وها أنتم اليوم تكشفون الفضيحة تلو الفضيحة والكارثة تلو الكارثة وتضعون أقلامكم، بما فيها من حبر، في عيون المسؤولين، فيأتي التعليق: "الدني عم تشتّي".
***
قد يكون الصديق محقًا، لكن أن يكون محقًا فهذا يعني إصرارنا على الإستمرار في الكتابة لأن الكلمات ستُزهِر يومًا ما ولأن رؤوسًا كبيرة ستتدحرج، ولنا في المنطقة والعالم ما يؤكِّد أن اليأس والإحباط لا يلتقيان مع الكلمة الحرة الصادقة الجريئة التي توصل في نهاية المطاف إلى الهدف المنشود لمصلحة الناس والشعب. وكم من أمثلة قديمة وحديثة تُبقي جذوة الأمل مشتعلة على رغم التعب والوهن اللذين يصيبان الكاتب.
وأكثر، سنقول لكم البلد ليس ملككم، أجدادنا وآباؤنا كانوا يقولون لنا: هذا البلد للطيبين ولأصحاب الإيادي النظيفة، وأصحاب الرؤية الثاقبة والفكر النيّر ومناقبية الالتزام بالوطن، لكن ماذا نقول لهم، أصبح البلد يتحكم فيه الفاشل أو الهاوي أو المرتشي أو المتعهد وصديقه، أو ذاك المحترف عدم الشبع أو أصحاب الرؤية التي أدت بنا الى شفير الهاوية.
***
هل كان "بوب وودورد" و"كارل برنشتاين" ليصدِّقا أن كشفهما عن فضيحة "ووترغيت" في صيف العام 1972، في صحيفة "الواشنطن بوست" ستؤدي بعد سنتين إلى استقالة الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون؟
لم ييأسا، ثابرا، وتوصلا في نهاية المطاف إلى المساهمة في تفكيك شبكة فساد قامت على "استغلال النفوذ، وعرقلة مسار القضاء".
لو فكَّر "بوب وودورد" و"كارل برنشتاين" بمنطق اليأس والتردد والإحباط وبأن "ما بينعمل شي" لكانت تركيبة الفساد استمرت ولكان الاميركيون يعانون إلى اليوم من مضاعفات هذه التركيبة.
***
بعد "فضيحة ووترغيت"، مَن عاد يجرؤ في الولايات المتحدة الأميركية على استخدام النفوذ؟
لكن مهلًا، لو لم يلاقِ القضاء الأميركي الصحافة الأميركية في منتصف الطريق، لكانت "ووترغيت" تحوَّلت إلى فيلم سينمائي في هوليود، "بعد مرور الزمن".
***
الأمثولة من هذه القصة ان الصحافة والقضاء يتكاملان، فليس مسموحًا ان تكون القاعدة "السارية المفعول" هي: انتم تكتبون ما تشاؤون، ونحن نمارس السياسة كما نشاء!".
إذا لم يكن هناك رأي عام وأقلام فسيستمروا في أدائهم السيئ:
سيبقون يضعون على جدول أعمال مجلس الوزراء إعطاء زيادات للموظفين في مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك، علمًا ان لا قطارات ولا باصات نقل مشترك منذ أكثر من ربع قرن.
سيبقون يستوردون الفيول لتوليد الكهرباء، عبر تجار، وليس عبر الدولة، تحقيقًا لأهداف العمولات والتنفيعات لمافيا تجار المحروقات.
***
الموازنة أصبحت في الأمانة العامة لمجلس الوزراء. رفعها وزير المال بعدد النسخات على عدد أعضاء مجلس الوزراء:
أولًا الموازنة يجب ان تكون في عهدة الرأي العام والخبراء خصوصًا لتتم مناقشتها بكل شفافية وصراحة وجرأة ومن دون مواربة. الجميع يعرفون القراءة ويعرفون قراءة الأرقام خصوصًا ، فلا شيفرة ولا تشفير ولا "كود" ولا رقم سري:
أنشروا الموازنة بصفحاتها الألف، وليكن النقاش علنيًا، وعندها سيظهر ما هي الأبواب التي يجب ان تخضع أكثر فأكثر للتخفيض.
حين سيتم نشر الموازنة، سيظهر أن حجم الرواتب يستهلك اكثر من ثلث الموازنة، لكن ما سيظهر أيضاً هو فضيحة التوظيف العشوائي وهو أحد أبرز مزاريب الهدر والفساد. فهل سيتم وضع حد له أم سيُقال: "عفا الله عما مضى"؟
***
أجدادنا وآباؤنا من عرق جبينهم سلَّمونا بلدًا، فماذا سنتسلِّم منكم لأبنائنا وأحفادنا؟