منذ تعيينه من قبل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون سفيراً للبنان لدى العاصمة الأميركية، واشنطن، لم تهدأ المساعي لعرقلة عمله ووضع العصي في دواليب الدبلوماسية اللبنانية التي يقودها بحكمة وحنكة ودراية، وسط تعقيدات المشهد الدولي الذي تتحكم به الولايات المتحدة، وتمعن يوماً بعد يوم بزيادة جرعات العقوبات الإقتصادية على إيران وعلى حزب الله في لبنان، حيث تأخذ مهمة السفير غابي عيسى في واشنطن جهداً استثنائيا وقياسياً، استطاع الرجل من خلاله تجنيب لبنان وتحميل الشعب اللبناني أعباءً اقتصادية إضافية، من خلال شبكة علاقاته الواسعة في واشنطن، والتي نجحت -إلى حد كبير- بإقناع الجهة المناط بها تنفيذ العقوبات على حزب الله، بضرورة التفريق والتمييز بين ما يستهدف الحزب ومؤسساته، وما يستهدف عموم الشعب اللبناني.
لم يرق للبعض داخل السلك الدبلوماسي تعيين عيسى سفيراً لدى واشنطن، أقوى عواصم العالم، وهو المركز الأرفع على مستوى البعثات الدبلوماسية، والأهم على مستوى المستقبل السياسي لشاغليه. وفي البداية عوّل البعض على فشل متوقع وتخبط مُتَخَيل نتيجة القصور المهني وانعدام الخبرة الدبلوماسية لرجل أتى من خارج الملاك. وبفترة قياسية، استطاع عيسى تثبيت أقدامه في عاصمة القرار الدولي، وأثبت عن قدرات وخبرات يملكها، إضافة إلى فهمه للثقافة الأميركية وبراعته بمخاطبة العقل السياسي عند المسؤولين في واشنطن. لذلك، كانت النتيجة محبطة لهؤلاء الذين طال انتظارهم لفشلٍ لم يتحقق ولإخفاق تبدّد وتبخر، فوجدوا ضالتهم بالتدخل المباشر لعرقلة مسيرة الرجل، بداية عبر حملة شنتها أبواقهم حول تسليح الجيش اللبناني في واشنطن، اُستعملت فيها كل الأساليب لإقناع القيمين في الإدارة الأميركية بوقف تسليح الجيش حتى يغير الأخير عقيدته القتالية.
وفي شهر كانون الثاني من العام الحالي، تم الترويج لإشاعات تتهم عيسى بأنه "فركش" زيارة البطريرك بشارة الراعي الى الولايات المتحدة عبر عرقلة لقاء الأخير بالرئيس ترامب، وهو الأمر الذي نفاه عيسى بشدة، وثَبُت لاحقاً بأن البطريرك الراعي ألغى زيارته للولايات المتحدة لأسباب صحية. وفي نفس الفترة الزمنية، تمّ تسريب إحدى الوثائق السرية التي بعث بها عيسى إلى وزارة الخارجية، والتي تتحدث عن موقف الإدارة الأميركية من دعوة سوريا للقمة الإقتصادية التي انعقدت في بيروت، بداية العام الجاري، وعن مسألة المشاركة بإعادة إعمار سوريا. والهدف كان توجيه صفعة مزدوجة سياسية-دبلوماسية لعيسى وإحراجه أمام الرأي العام اللبناني والسخرية منه أمام الأوساط الدبلوماسية لقلة خبرته وعدم اتخاذه الإحتياطات اللازمة والضرورية! واليوم، تتم التسريبات الأخطر والأهم، وهي محاضر اجتماعات الوفود اللبنانية التي زارت واشنطن بداية الشهر الجاري ومن ضمنها محضر اجتماع نائب رئيس مجلس الوزراء "القواتي" غسان حاصباني ووزير الإقتصاد "العوني" منصور بطيش بمساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون تمويل الإرهاب والجرائم المالية مارشال بيلنغسلي في مقر وزارة الخزانة الاميركية، والذي يراد منه –أولاً وأخيراً- النيل من السفير اللبناني لدى واشنطن. ويمكن الوصول إلى مثل هذا الاستنتاج المنطقي، عبر طرح الأسئلة التالية:
ما هو مضمون التسريب ؟ من المستفيد منه؟ وهل فعلاً يدين التسريب القوات اللبنانية ويدق إسفيناً بينها وبين حزب الله، أم يمنحها علامة ممتازة في "الوطنية "؟ ولماذا كان اجتماع حاصباني-بيلنغسلي فاتحة التسريبات ؟ بغض النظر عن العناوين التي رافقت التسريب، وبعيداً عن دقتها، فإن المضمون وطبيعة كلام حاصباني لم يكن أحد ليجيب بأفضل منه، وبالتالي فهو لم يشكل طعناً بفريق لبناني شريك في مجلس الوزراء، وإنما قدم إجابات منطقية تجنب لبنان خطر العقوبات الشاملة، وبالتالي فقد سقط الهدف المعلن للتسريب بضربة المضمون القاضية ، حتى أن الجهة المعنية لم تر فيه تآمراً أو طعناً في الظهر. فماذا تستفيد حركة أمل –مثلا- من هذا؟
ماذا يستفيد التيار الوطني الحر؟ وهو المتضرر الأول والوحيد؟ ماذا يستفيد حزب الله ؟ ماذا يستفيد كل الأفرقاء على الساحة السياسية اللبنانية؟ وفي المقابل، هل استفادت القوات اللبنانية؟ ألم يظهر وزيرها الأول في الحكومة بمظهر رجل الدولة الواعي والمسؤول؟
ولماذا شنّ النائب مروان حمادة هجوماً لا مبرر له على عيسى وحمّله مسؤولية التسريب واصفاً عمله بالدبلوماسية الصفراء، ولماذا طالب وزارة الخارجية بتعليق عمله بواشنطن؟
هي سلسلة من العقبات والعوائق التي يضعها فريق من المتضررين من وجود عيسى على رأس الدبلوماسية اللبنانية في الولايات المتحدة، فريق من المتضررين يمتد من العاصمة واشنطن إلى العاصمة بيروت داخل قصر بسترس، ويتقاطع مع توجهات سياسية لبعض الأحزاب السياسية التي عبر الوزير حمادة عن هدفها الصريح، وقال: أنا المريب.. خذوني!