بعد أيام، تدخل المواجهة الأميركية - الإيرانية مرحلة حاسمة. وستكون إيران تحت وطأة مزيد من الضغوط الاقتصادية والمالية. فالهدف الذي تسعى إليه إدارة الرئيس دونالد ترامب هو إيصال النظام الإيراني إلى مستوى الصفر في صادراته النفطية. وإزاء هذا الاختناق، ستبحث إيران عن وسائل مختلفة للنجاة. فهي قد تفتح الحرب على مصراعيها بواسطة حلفائها في «الهلال الشيعي»، أو تعقد الصفقة سريعاً وبالحدّ الأدنى من الخسائر. ولكن، في الحالين، ماذا سيبقى لها من نفوذ في «الـ4 عواصم» عربية التي سبق أن أعلنت أنها تتحكّم بالقرار فيها؟
هناك واحدة من الـ4 عواصم، هي دمشق، خرجت تقريباً من النفوذ الإيراني، وباتت عملياً ضمن دائرة النفوذ الروسي. هذا الانتقال بات أمراً واقعاً، لكن الروس لا يريدون تظهيره في شكلٍ حادّ، مراعاةً لتحالفٍ استراتيجي يحتاجون إليه بشدّة مع إيران.
كما أن نظام الرئيس بشّار الأسد يحرص تماماً على إجراء توازن في ارتباطه بكل من موسكو وطهران وسائر حلفائها في لبنان والعراق واليمن. فهؤلاء هم الذين كانت لهم اليد الطولى في استمراره في السلطة وبسط نفوذه على بقعٍ واسعة من الأرض في سوريا.
لكنّ شيئاً ما قد يتغيَّر تدريجاً وبطريقة قسرية. فالأسد سيقترب أكثر إلى الخيار الروسي، والروس سيبتعدون أكثرعن طهران تحت تأثير الضغوط والمصالح الأميركية والإسرائيلية. وستكون لذلك تداعيات مُهمّة على خريطة التوازنات القائمة حالياً في الشرق الأوسط.
في الدرجة الأولى، تبدو إيران على وشك خسارتها الحلقة السورية التي تربطها بالبحر الأبيض المتوسط، أي الساحل السوري وبيروت. وهذا الأمر يريح الخليجيين الذين سارعوا إلى تقديم عروضهم لدمشق، بتشجيع من موسكو.
وتبدو العلاقات السورية - الخليجية على وشك الترميم. ويطوي الخليجيون حالياً مسألة وجود الأسد من السلطة، ويطرحون الإنخراط بقوة في مشاريع إعادة البناء والتنمية في سوريا.
طبعاً، تريد طهران تعويض الخسارة في سوريا من خلال تدعيم حضورها في العراق ولبنان. لكن النهج الذي يتبعه رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي يتصف بالبراغماتية.
فصحيح أنه حليف لطهران يحظى بثقها، إلّا أنه أيضاً يريد الاحتماء بعلاقة مميزة وقوية مع السعوديين، فيما هو يحتفظ بعلاقات وطيدة مع واشنطن وموسكو في آن واحد. وهذا الدور المحوري يؤهل العراق أن يحصد الأرباح من التسويات الإقليمية إذا تمت، وأن يبقى في منأى عن الخسائر إذا اشتدّ الخناق على إيران.
واليوم، يطمئنّ الإيرانيون إلى أنّ الغالبية الشيعية هي التي تُمسك بالسلطة في بغداد، فيما يطمئنّ السعوديون إلى أنّ هذه السلطة تنفتح عليهم.
وفي الذاكرة السعودية أنّ القيادة العراقية في زمن الرئيس صدام حسين، السنّي، هي التي اجتاحت الكويت واستهدفت السعودية بالصواريخ للضغط على الأميركيين عند محاولتهم إخراج صدّام من الكويت.
ويعتقد بعض المتابعين أن إيران راضية اليوم عن التقارب القائم بين بغداد والمملكة، وعن الوساطة التي تجريها بين الرياض وطهران. فهذه الوساطة قد تصبح «باب الطوارئ» الإيراني، إذا اختنقت إيران بالحصار الأميركي.
وفي رأي هؤلاء أنّ طهران نفسَها تشجّع حلفاءَها في العراق ولبنان، وحتى سوريا، على انتهاج سياسية براغماتية حالياً تجنِّبهم الخسائر الكبرى.
ولذلك، يعتمد هؤلاء خططاً بديلة، ولو ظرفياً، ويحاولون الانحناء للعاصفة. فالأسد صامتٌ في مسألة تحالفه مع طهران. و»حزب الله» يعمل على تدعيم مواقعه والاحتفاظ بأوراق القوة، لكنه يحرص على تظهير إنضوائه في هيكلية الدولة اللبنانية.
لكن ما يلفت المراقبين هو أن المملكة أيضاً، من جهتها، بدأت تعتمد نهجاً جديداً في التعاطي مع العواصم التي كانت تحسبها إيران «تحت السيطرة»، ولا سيما منها بغداد التي يعتبرها الإيرانيون خاصرتهم الاستراتيجية والمحطة الأولى في عملية تصدير الثورة.
وهذا ما جرت ترجمته في الأسابيع الأخيرة، بالزيارات المتبادلة بين البلدين على أرفع المستويات من رسميين ورجال أعمال.
وقد شكّلت زيارة الوفد السعودي لبغداد، مطلع الشهر الجاري، تظاهرة غير مسبوقة في عدد أعضاء الوفد وحجم المشاريع التي تمّ توقيعها والمساعدات التي وعد السعوديون بتقديمها، وهي في حدود المليار دولار.
وينسجم هذا التقارب مع المساعي التي يبذلها رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي للتقريب بين طهران والرياض، بتشجيع من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبدالله الثاني.
ويقول المطلعون: «يدرك السعوديون أنّ المرحلة الجديدة في المنطقة لم تعد محكومة بالمعايير العسكرية، بل بحجم الأدوار والمصالح الإقتصادية الكبرى. فالنزاعات المسلّحة في سوريا واليمن وسواهما بدأت تتراجع، ومعها يتراجع دور السلاح في المواجهة. ولذلك هم يتطلعون إلى الهجوم إيجاباً، بالمعنى الاقتصادي - الإنمائي، في اتجاه دول المنطقة».
ويترجَم ذلك انفتاح السعوديين بلا تحفظات نحو العراق، واستعدادهم للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، وطبعاً في الأراضي الفلسطينية بعد بروز ملامح التسوية المنتظرة. وأما في لبنان، فالسعوديون وحلفاؤهم الخليجيون فهم تقليدياً يشكلون ركيزة يصعب تعويضها.
لكن مشكلة لبنان مع السعوديين أكبر من مشكلة العراق. فهناك جماعات لبنانية نافذة تتحدّى السعودية، فيما لا توجد جماعات مماثلة في العراق، البلد ذي الغالبية الشيعية والملاصق لإيران والسعودية.
ولذلك، ستكون عودة السعودية كلياً إلى ما كانت عليه علاقاتها الاقتصادية والمالية بلبنان مرهونة بمراعاة اللبنانيين كل المعطيات الإقليمية. فليس ضرورياً أن يكون لبنان في عداء مع السعودية إذا كان في صداقة مع إيران، والعكس صحيح. والنموذج العراقي يمكن أن يُؤتي ثماره إذا اعتمده لبنان.
البعض يجزم أنّ إيران لن تتمكن في أيِّ حال من الاحتفاظ بالعواصم العربية الـ4 التي أعلن حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات السابق، قبل 4 سنوات السيطرة عليها. وهذه الخسارة ستقع حتى ولو وافق الإيرانيون على تسوية مع إدارة ترامب، خصوصاً في ظل الاتجاه المرجّح لإعادة انتخابه لـ4 سنوات آخرى.
إنّ الحصار الاقتصادي الخانق على إيران نفسها سيضعف قدراتها ويفكّك ارتباطها بحلفائها. ولذلك، يخشى الجميع أن يصلوا إلى أن يتصرف كل منهم «براغماتياً»، فتتباعد إيران عن حلفائها في العراق وسوريا ولبنان، واليمن طبعاً. فعند تغيير الدول، لا أحد يتأخّر في الحفاظ على رأسه…