تنزل الصحافة عن أسراج الخيول بعدما كانت عالية هدفها التصويب والتصحيح والقتال وهزّ العروش. نعم غابت عصور كبرى غالية كانت فيه للصحافة عروش تهزّ أعتى الجيوش والأنظمة. لن أذهب كثيراً غلى التاريخ إلاّ عبر الطلب الموثّق الذي نجده محتشداً في كتب التاريخ وفي المواقع الكثيرة التي جعلت نابليون بونابرت يقمع الصحافة ويكره الحبر الذي كان يقلقه بنقده إلى درجةٍ إعتبر فيها أنّ مقالاً واحداً يساوي في تأثيره جيشاً من 30000 جندي. تصوّروا المرتبة التي كانت تصطفي الكلمة النقيّة الصافية بالسماء والتي أخذت وتأخذ بالمعنى المعاصر أقصى تجليّاتها الباقية في الولايات المتّحدة الأميركية. إنّ أحتقار الصحافة من قبيل الرئيس الأميركي دونالد ترامب هي آخر الإختلاجات التي يمكن أن يفاجيء الباحثين في ميادين السلطات الإعلامية التي تفتقد إليها أرقى المجتمعات.
نحن اليوم هبطنا بالصحافة والكتابات إلى ما دون القعر الأرضي لسبب يكتب فيه الكثير هو صناعة التلاقي والتآلف والتفاهم والزواج بين السلطات السياسية والسلطات الإعلامية التي كانت أمس شمساً للديمقراطية لكنها تأفل وتذبل إلى حدود الظلال أو الصدى.
مايكل إيزيز في عهد الرئيس الأمريكي نيكسون كان من أوائل المنتجين لأول حرب إعلامية وقد سميت حرب المخلوقات الفضائية نعيش تأثيرها وتداعياتها حتى يومنا هذا. وثاني حرب إعلامية تاريخية معاصرة هي التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وقد أنتجها الممثل رونالد ريغان رئيس أمريكا. كانت مجرد أفلام مصورة لصناعات عسكرية اسمها "حرب النجوم" حملت عنوان ترشيح ريغن للبيت الأبيض ومختصرها: " إن أردتم انهيار الاتحاد السوفياتي عليكم بمحاربته ماليا وإعلاميّاً لأن نظامه المالي الاشتراكي لن يقوى على الصمود بوجه صناعة أسلحة خيالية سوف نسوقها بالصورة والخبر الإعلاميين اللذين يهدّا المجتمعات من دواخلها. سيسقط النظام المالي هناك بمحاولاته المستحيلة في الحصول على برامج إعلامية وحملات خيالية هائلة وهي غير موجودة أصلا لا لدى الولايات المتحدة الأميركية ولا لدى غيرها بالطبع لكنها جاءت نتيجة لحقائق خيالية جعلت من أميركا صانعة لها ومنتجتها بما يجعل القوّة العظمى العدوّة لا تنام..."
يمكن أن نعتبر عربيّاً حرب العراق 2003 النافذة السحرية التي دخلت منها أميركا عسكرياً في ما عرف بحرب الخليج وأسلحة الدمار الشامل التي قلبت الرأي العام العربي رأساً على عقب وهي الحرب العالية المستوى التي كانت فيه الدبابات مصانع حقيقية للهجوم والتدمير كما كانت غرف عمليات إعلامية سيطرت على الرأي العام العالمي بقدرات خيالية هائلة.
إن ما نعانيه في مجتمعاتنا العربيّة أو بقايا وزاراتنا العربية التقليدية في ميادين صناعة الإعلام هو القصور الحاد عن فهم الأنظمة الذكيّة والعميق الخفيّة التي يصنعها الإعلام في أجيال وكشوفات وتقنيات سريعة لا تعيش طويلاً أو لا يسمح مخترعوها ببقائها طويلاً بين أيدي الناس. ما أن يعتاد الناس المستهلكون على تطويع جيل من هذه التقنيات حتّى تعلن أكيركا دفنه ويتحضّر العالم لإستقبال الجيل الجديد. نحن نتكلم ونعالد وننتقد وفقاً للنصوص والكتابات المثقوبة التي لطالما سمعناها قبل قرون. لسنا في نسيج الرموز السرية للإعلام كي نعلن تمكننا من صناعة الرأي العام لنمرر إليه رسائلنا عبر تقنيات مستوردة لا تتجاوز في إقتصادها المعرفي اللعب الجميلة.
ولكن هل فهمنا ماذا يعني شعار محرك البحث Google, أو مثلا استطعنا ان نفك شيفرة رمز Facebook, هل بحثنا عن أكثر الكتب مبيعا بالعالم وفصلنا ما بين فواصلها لنفهم ما يبحث عنه القارئ الغربي لنضع كتابا يريده هو, ونبحث عن نقاط تلاقٍ مع المشروع المقاوم أو تقاطعها مع بعضها لنضيء عليها, بالتأكيد كلا والا كنا اليوم نلمس نتاج صناعتنا الإعلامية.
باتت صناعة الإعلام محكومة بمعايير وإستراتيجيات دفيقة لا تنفصل عن السياسة وصناعة المستقبل وهي تبدو منقادة إلى عنوان الألفية المبدئي ب"الفوضى الخلاّقة" . نعم الفوضى لا تخلق مساحاتها وأشكالها الهندسية لطالما تتراكم أنقاض الدول والشعوب والحروب في معظم الأنحاء التي ما زالت ترفع أصابع الرفض وعدم الإنقياد أو الإنصياع. لا أحد يمكنه التكهّن متى تنزاح الدول إلى إزالة الركام وتنظيف الساحات وإعمار المدن المشلّعة التي سيواكبها نوع من إستغراق الأجيال الجديدة في فقدان الذاكرة بمعنى التاريخ الذي سيكون محكوماً بدوام الفوضى والمشاعية والصدفة والضياع في أنحاء العالم وثقافاته وخصائصه المتنوعة التي تتجاوز بكثير كلّ مقوّمات الصد والرفض والتحجّر فوق الثقافات القديمة التي لن تجد أسواقاً لها حتّى لعرضها لا لتأثيرها في العالم.