من راقب مشهد منتدى الطريق والحزام، الذي عُقد في دورته الثانية في العاصمة الصينية بكين، والمشاركة الدولية الواسعة فيه، 37 دولة ، يدرك جيداً أنّ مستقبل العالم يتجه نحو تكريس واقع دولي جديد يقوم على التعاون بين الدول لتحقيق التنمية والنمو الاقتصادي من خلال المشروع الطموح الذي تطرحه الصين لإعادة إحياء طريق الحرير القديم، لكن ببنية تحتية حديثة ومتطوّرة تقرّب المسافات بين الدول التي يعبر منها هذا الطريق. وما يعطي هذا المشروع أهمية كبيرة أنّ الصين، العملاق الاقتصادي الصاعد بقوة إلى القمة، تقدّم للعالم نموذجاً جديداً للعلاقات بين الدول يقوم على تبادل المنافع الاقتصادية، وتقديم المساعدة للدول التي تحتاج الى تطوير بناها التحتية، وعلى قاعدة احترام السيادة والاستقلال، وهو ما شجع ويشجع هذه الدول على المشاركة في هذا المسار الذي يسهم في النهوض في اقتصادياتها وتحقيق التنمية المستدامة، ويخرج العالم من أتون الأزمات التي تسبّبت بها الإمبريالية الأميركية نتيجة جنوحها نحو الحروب وفرض الهيمنة والتحكم بالعالم، مما أدّى إلى فشلها وغرقها في المديونية وتفجير الأزمة المالية والاقتصادية في الولايات المتحدة عام 2008، والتي اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنها ما كانت لتحصل لولا حرب العراق التي كلفت بلاده 7 تريليون دولار…
والمفارقة أنّ هذا المنتدى العالمي يعقد في وقت تصرّ فيه واشنطن على مواصلة سياسة الحصار وفرض العقوبات الاقتصادية ضدّ الدول التي ترفض الخضوع لهيمنتها وتعمل على تقويضها، وتنادي بإقامة نظام عالمي جديد يقوم على التشاركية والتعاون واحترام وتطبيق ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي… وآخر نسخة من قرارات واشنطن الأحادية لتشديد الحصار على الدول المستقلة التي تقاوم هيمنتها، كانت إلغاء الإعفاءات لبعض الدول والشركات التي تشتري النفط الإيراني، وقيام الأسطول الأميركي بملاحقة ناقلات النفط في عرض البحر لمنع الناقلات التي تتجه إلى سورية… في محاولة لإخضاع كلّ من سورية وإيران ودفعهما لقبول قائمة الإملاءات الأميركية، إنْ لناحية ماهية الحلّ السياسي في سورية، أو لناحية تعديل بنود الاتفاق النووي مع إيران، الذي انسحبت منه إدارة ترامب… على أنّ العالم يشهد الفرق الشاسع بين طبيعة هذه السياسة الاستعمارية الأميركية في تعاملها الاستفزازي مع دول العالم، وبين طبيعة السياسة التي تنتهجها كلّ من الصين وروسيا، وغيرها من الدول التي تشارك في دعم مشروع الطريق والحزام، وتقوم على الاحترام المتبادل والتعاون.. ومن الطبيعي أن يؤدّي هذا النموذج إلى تحفيز دول العالم إلى السير فيه، في حين أنّ النموذج الأميركي يقود إلى نفور دول العالم منه، بما فيها تلك الحليفة للولايات المتحدة.. وهذا ما ظهر بوضوح من خلال مشاركة الكثير من الدول الحليفة لواشنطن في منتدى بكين، رغم مقاطعة الولايات المتحدة له، والطلب من حلفائها عدم الحضور..
إلى ماذا يؤشر ذلك؟
انّ أيّ محلل أو مراقب لا بدّ له أن يخرج بنتيجة واضحة وهي أنّ ذلك يشكل دليلاً جديداً يضاف إلى الكثير من الدلالات التي تؤكد بأنّ الدول التي تتمرّد على نظام الهيمنة الأميركي في ازدياد، وانّ عزلة أميركا الدولية في اتساع، يؤكد ذلك ليس فقط منتدى الطريق والحزام، إنما أيضاً سلسلة المواقف الدولية الأخيرة في مجلس الأمن التي وضعت العالم في جهة، وأميركا في جهة مقابلة، في إدانة قلّ مثلها لسياساتها المنتهكة للقانون الدولي.. ولهذا نجد أنّ العديد الدول الحليفة للولايات المتحدة بدأت تعارض سياساتها الأحادية والتي لا تأخذ بالاعتبار مصالحها، ولا احترام الاتفاقيات الدولية أو القانون الدولي، في ما خصّ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي أو فرض الحصار على استيراد النفط الإيراني، حيث عارضت هذه السياسة الأميركية تركيا ودول الاتحاد الأوروبي…
انّ زمن الهيمنة الأميركية الأحادية انتهى ولم يعد بإمكان الولايات المتحدة استعادة هذه الهيمنة مهما حاولت، وانّ استخدام آخر ورقة متبقية من أسلحة هيمنتها المتداعية، وهي ورقة الهيمنة المالية، لن يقود إلى تمكّنها من إعادة تعويم هيمنتها.. فالعالم أصبح بالفعل متعدّداً، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ودول العالم التي تعمل لإقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب، بدأت تنفيذ خطة لكسر هيمنة أميركا على نظام التحويلات الدولية المالية بالدولار، من خلال إيجاد آليات جديدة في ما بينها.. من هذه الآليات التبادل التجاري بالعملات الوطنية، أو آليات مالية خاصة لا تتعامل بالدولار. مثل الآلية التي أنشأها الاتحاد الأوروبي مع إيران تجنباً للعقوبات الأميركية المفروضة على الدول والشركات التي قرّرت مواصلة الاستثمار في إيران أو تريد الاستمرار في التعامل التجاري معها.. واليوم إدارة ترامب تسعى إلى العودة للتفاوض مع الصين لإيجاد تسوية لموضوع الرسوم الجمركية، لأنها وجدت أنه ليس من مصلحتها الاستمرار في حرب الرسوم مع الصين بسبب التداخل الاقتصادي بينهما.. فكيف والحال هذه سوف تفرض عقوبات على الصين التي قرّرت الاستمرار في شراء النفط الإيراني بل وزيادة الكمية التي تستوردها يومياً…؟
انّ سياسة ترامب المضطربة، والتي تستفز الخصوم والحلفاء في آن، دفعت مجلة «فورين بوليسى»، الأميركية المحافظة، الى القول «إنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تسبّب في إغضاب حلفائه فى كندا والمكسيك وأوروبا بسبب التعريفات الجمركية التي فرضها على واردات الحديد والصلب، وجعل من الصعب تشكيل جبهة موحدة ضدّ التجاوزات التجارية للصين». مشيرة إلى أنّ «نهج الولايات المتحدة الإنعزالى، قد يدفع أوروبا ودول أخرى نحو علاقات اقتصادية أوثق مع الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ذلك بحسب ميكي كانتو، الممثل التجاري الأميركي السابق في إدارة كلينتون».. وهذا ما يحصل بالفعل ويدلل عليه الحضور الدولي الواسع في منتدى بكين، «الطريق والحزام»…