نصف قرن مضـى.. العالـم كلّه تغيّــر وتطوّر ودخل عالـم الذرّة والفضاء والإنتـرنت والـهاتف الذكيّ... ونـحن كنا نتقاتل وندمّر بلدنا واقتصادنا ونـهجّر خيـرة شبابنا، تارةً من أجل فلسطيـن، وطوراً من أجل سوريا، وفـي أغلب الأحيان من أجل سلطة وموقع ونفوذ.
مَن كان يعلم من اللبنانيـيــن أنّ التظاهرة التـي إنطلقت فـي بيـروت فـي 23 نيسان 1969 ضدّ الـجيش والـحكومة تأيــيداً للثورة الفلسطينية، ومطالبةً بإقرار حرّية العمل الفدائي من لبنان، ستؤدّي إلى إنقسام اللبنانيـيـن عقائدياً وطائفياً، ثـمّ إلى ولادة"إتفاق القاهرة" الذي أعطى الفلسطينيـيـن حرية التسلّح والعمل الفدائي إنطلاقاً من لبنان، ثـمّ إلى التدخّل فـي الشؤون اللبنانية، فإلى معارك عنيفة بيـن الـجيش اللبنانـي والـمقاومة الفلسطينية، إلى أن كانت الأزمة الـمفتوحة والـحرب الأهليّة التـي بدأت شرارتـها فـي 13 نيسان 1975 واستـمرّت حتـى 13 تشرين الأول 1990، حـيـن أغار الطيـران السوري على قصر بعبدا بضوء أخضر أميـركي-إسرائيلي، ولـجوء العماد ميشال عون إلى السفارة الفرنسية، ثـمّ نُقل منها إلى فرنسا.
أوقعت هذه الـحرب الطويلة خسائر كبيـرة فـي الأرواح والـممتلكات، فقُدّر عدد القتلـى بـ 150 ألفاً وعدد الـجرحى بأكثـر من 350 ألفاً. وقُدِّرت الـخسائر الـمادّية بأكثـر من 75 مليار دولار أميـركي. وعرفت البلاد نزفاً بشرياً خطيـراً بسبب النـزوح الداخلي والـهجرة الكبيـرة إلى الـخارج. وأُصيـبت الـمؤسّـسات الإقتصادية بأضرار جسيمة، وانـخفضت قيمة العملة اللبنانية إنـخفاضاً كبيـراً. إذ كان الدولار الأميـركي يساوي 3 ليـرات سنة 1982 فأصبح يساوي 2400 ليـرة سنة 1993، ليستقرّ فـي ما بعد على نـحو 1500 ليـرة.
عند إنتهاء الـحرب عام 1990، خرج لبنان مدمّراً، ولكن ديون الدولة كانت مـحدودة جداً، إذ لـم تكن تتجاوز الـملياري دولار. ولكن فـي العام 2005، تاريخ خروج الـجيش السوري من لبنان، كان الدين العام قد وصل إلى 38 مليار دولار، مع العلم أنّ حجم الإنـفاق على إعادة الإعمار والبنـى التـحتـيّــة لـم تتجاوز 7 مليارات دولار. ثـمّ تسارعت وتيـرة الدين العام وارتفع من 38 ملياراً إلى 86 مليار دولار فـي نـهاية عام 2018، وذلك بـفضل السياسات التـي إعتمدتـها الـحكومات منذ إنتهاء الـحرب وبعدها، والتـي أدّت إلى تسارع زيادة الدين، بسبب الـهدر والفساد والإنفاق غيـر الـمجدي من خارج الـموازنة، من دون أن يكون هناك إنفاق إستـثماري ملحوظ. (يكفي أن يكون الـهدر فـي الكهرباء وصل إلى 36 مليار دولار، وما زلنا من دون كهرباء). كما كان لكلفة الفوائد الـمرتفعة أثر كبيـر فـي الـنموّ السريع لـهذا الدين.
ماذا تعلّمنا خلال نصف قرن ؟.. لا شيء. توقّفت الـحرب، ولكنّ الـمتاريس الطائفية والـحزبية والفئوية لا تزال ترتفع يوماً بعد يوم، وتـهدّد الإستقرار والإقتصاد ومعيشة الناس.
لقد أنـجبت حرب الـخمس عشرة سنة "إتفاق الطائف"، والـحكم الـجماعي أو الـتوافـقي، وخلّفت دماراً هائلاً لـم يشهده تاريخ الوطن. وأنـجبت حوادث 7 أيار "إتفاق الدوحة" و"الثلث الـمُعطّل" أو "الضامن"، وزادت الشرخ السنّـي-الشيعي، وكرّست تلك الـحوادث "فيديرالية الطوائف" بكل أبعادها ومراميها، فتـحوّلت الوزارات وإدارات الدولة إلى مواقع حزبية ومذهبية للتنفيعات والسمسرات ولـحشو الأزلام والأتباع. وعلى الرغم من عـجز الـموازنة وتعاظم الدين العام، قامت السلطة، ومن دون أيّ إحساس بالـمسؤولية، ولكي تضمن إستـمراريتها ونـجاح أتباعها
فـي الإنتخابات النيابية، بإقرار سلسلة الرتب والرواتب، من دون تأميـن الإيرادات الكافية لتغطية كلفتـها، فتفاقـم العجـز وزادت الـمديونية واقتـربنا من الـحالة اليونانية بشهادة رئيس الـحكومة سعد الـحريري، واضطرار وزير الـخارجية جبـران باسيل إلى إقتـراح فتوى باقتطاع نسبة مئوية من معاشات الـموظفيـن فـي القطاع العام.
بعد عام 2005، أضاعت الطبقة السياسية التـي حكمت البلاد فرصاً كثيـرة فـي شتـّى الـمجالات، فتـركت البنـى التـحتيّـة تتآكل وتـهتـرئ، وبدلاً من إغتنام فرصة غياب الوصاية السورية لإعادة هيكلة مؤسّـسات الدولة، وتعزيز السلطات الرقابية والقضائية، والعمل على تطهيـر الفاسديـن والـمفسديـن، وترشيد الإنفاق، راحت تـحشو الإدارة بأزلامها من دون حسيب ولا رقيب، حتـى بلغ عدد العامليـن فـي القطاع العام 300 ألف، (من أصلهم 120 ألفاً فـي الأسلاك العسكرية والأمنية)، يكلّفون الدولة مبلغاً يقارب 8 مليار دولار سنوياً. وبدلاً من وضع الـخلافات جانباً، والإسراع فـي إستـخراج ثروتنا النفطية والغازية، إحتـدم الصراع السياسي وتضاربت الـمصالـح وتعاظـمت الشهوات، مـمّا أعاق تسريع إتـخاذ الإجراءات لتلزيـم الشركات الأجنبية البدء بعمليات إستـخراج هذه الثروة الـمهمّة...
إنّ التاريخ لا يعيد نفسه، بل نـحن مَن نواصل إعادته وتكرار نفس الأخطاء حتـى مَلَّ منّا.
يقول أينشتايـن : "لا يـمكننا حلّ مشكلةٍ باستـخدام نفس العقلية التـي أوجدت تلك الـمشكلة".