تفيد الأرقام المتداولة حول المطلوب في تخفيض العجز في الموازنة ليضع لبنان ماليته العامة على سكة النمو، ويخرج من الحلقة المفرغة للتدهور في بئر الاستدانة، أن سقف المطلوب وفقاً لقراءة الجهات المالية الدولية وتوافق الجهات المعنية في القطاعين العام والخاص في لبنان، هو تخفيض مليار ونصف مليار دولار من الموازنة، ما يعادل 20 تقريباً من عجز هذه الموازنة، ويخفض نسبة العجز إلى الناتج الوطني الإجمالي من 13 إلى ما دون الـ9 .
وفي المقابل يبدو أنه إذا تمّ تطبيق إجراءات صارمة لوقف الهدر والفوضى والاستهتار في ميادين الإنفاق، وتطبيق إجراءات وقف الدلع على المالية العامة التي تُعتمد في بعض المؤسسات العامة والوزارات، ولا يمكن وصفها إلا بمنزلة بين الهدر والفساد أو الإفساد، كفيل إذا ما أضيف لنتائج إجراءات وقف الكثير من أبواب الإنفاق غير المجدي سواء الإيجارات المضخمة للأبنية أو المستشارين المتورمين في دوائر الدولة، أو نفقات العلاقات العامة والسفر، والسير بخطة الكهرباء التي تم إقرارها، وفوق كل ذلك تحسين أنظمة الجباية الضريبية وضبط العائدات المالية من الجمارك وشركات الخلوي، وتحسين جباية الضرائب العقارية والمالية، وتعديل بعض بنودها بما لا يطال الطبقات الفقيرة، وجملة من الترتيبات المصرفية، سيكون عندها ممكناً تحقيق التخفيض المطلوب في الموازنة دون اللجوء للتقشف.
التقشف يعني في حالات الإنفاق الفردي أو المؤسسي أو الحكومي، التوقف عن إنفاق ضروريّ وملح لأن الواضع المالي لا يسمح بذلك، أما الإصلاح فيعني وقف كل إنفاق غير مجدٍ ويشكل هدراً بلا مقابل إنتاجي، وتعبيراً عن فوضى يتم ضبطها، ورسم اولويات الإنفاق وفقاً للحاجات الفعلية، ومن المهم جداً للأفراد والجماعات والمؤسسات، وخصوصاً للدول التمييز بين التقشف والإصلاح.
عندما لا يفي الوفر الناتج عن الإجراءات الإصلاحية بتحقيق النتيجة المرجوة، ويصير المطلوب المسّ بالنفقات الضرورية للدولة لأن الوضع المالي لا يحتمل نكون قد انتقلنا من الإصلاح إلى التقشف، ولذلك فالتبشير بالتقشف مسبقاً غير مبرر لأنه يوحي بالتهرب من مواصلة السير بالإصلاح حتى النهاية، طالما أن المردود المتوقع للإصلاح سيكون كافياً لتحقيق المطلوب إذا تمّ السير بالإجراءات الإصلاحية التي يحتاجها لبنان، وهو يحتاجها بمعزل عن الحاجة لخفض العجز. فالدولة أحقّ بهذا الوفر ليصير فائضاً حتى لو لم تقع موازنتها تحت العجز. ومن الفرص المهمة للدولة أن تكون حال العجز قد وفرت المناخ المناسب للسير بالإجراءات الإصلاحية، فهذه نعمة وليست نقمة، وهذا هو الفارق بين الإصلاح والتقشف مرة أخرى.
من غير المبرر التهاون في تطبيق الإجراءات الإصلاحية بصورة صارمة ودقيقة تحت شعار تفادي المتاعب التي تنتج عنها في بعض الفئات والقطاعات، واستسهال الذهاب إلى إجراءات التقشف بوهم أن متاعبها أقل، قبل استنفاد ما يجب فعله على المستوى الإصلاحي، ليس لأن متاعبها أكثر فقط، بل لأنه لن تتكرر الفرصة الإصلاحية الراهنة ويجب السير بتوظيفها بأقصى ما يمكن من الضغط لتطبيق حزمة متكاملة من هذه الإجراءات، وبعدها يصير البلد مستعداً للتجاوب مع مناقشة إجراءات تقشفية، مضمونها وقف إنفاق ضروري لأن الوضع لا يسمح، وكل الوقائع الراهنة تقول إننا لن نحتاجها، وإنه بالمستطاع بلوغ المطلوب بالإصلاح فقط.
الإصلاح حاجة وتحقيقه إنجاز وطني، فلماذا نسمّي إجراءاته بالإجراءات المؤلمة؟