حمل الظهور الثاني لزعيم تنظيم "داعش" الإرهابي أبو بكر البغدادي، في شريط مصور، العديد من الرسائل الهامة في الشكل والمضمون، خصوصاً بعد الاعلان عن وفاته في أكثر من مرة، بالإضافة إلى الهزائم العسكريّة التي تعرض لها التنظيم في سوريا والعراق.
منذ أشهر، سارعت العديد من الجهات، التي تحمل لواء الحرب على الإرهاب، إلى الإعلان عن هزيمة "داعش"، بالرغم من الخطر الذي لا يزال يشكّله التنظيم على الصعيدين الدولي والإقليمي، وكانت أغلب هذه الإعلانات ذات أهداف سياسيّة بالدرجة الأولى، بدليل أنّ التنظيم لا يزال قادرا على تنفيذ عمليّات كبرى، كان آخرها ما حصل في سريلانكا في عيد الفصح.
بالعودة إلى الرسائل التي حملها شريط البغدادي المصور، من الضروري التذكير بأن الظهور الأول له كان في ذروة قوّة التنظيم العسكريّة، لدى الإعلان عن الخلافة المزعومة، حينها أراد أن يقول لمن يتعاطف مع الأفكار التي يحملها بأنّ حلم الخلافة عاد من جديد، وبالتّالي عليهم المسارعة إلى الالتحاق بـ"داعش"، أما اليوم فالرسالة الأساسيّة كانت أن المعركة لم تنته بعد، وبأن "النصر" ليس بيده أو شرطاً للبقاء لأن "الله أمرنا بالجهاد ولم يأمرنا بالنصر".
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم التوجه الجديد، الذي كان قد مهّد له التنظيم في أكثر من رسالة سابقة، وهو الانتقال من السيطرة العسكريّة على مناطق معينة، كما كان عليه الواقع في سوريا والعراق، إلى حرب الخلايا النائمة، التي من الممكن أن تنفذ عمليّات إرهابيّة في أيّ مكان في العالم، مع العلم أنّ البغدادي كان قد ألمح إلى الأماكن المحتملة بشكل غير مباشر، ومنها فرنسا وأفريقيا، حيث حرص على الثناء على أنصاره في القارة السمراء، وذكر اسم أحد أبرز رجاله أبو الوليد الصحراوي.
في هذا السياق، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن زعيم "داعش" يقرأ التحولات جيداً، نظراً إلى أن بوصلة الأحداث، في المرحلة المقبلة، من المتوقع أن تنتقل إلى البلدان العربيّة في أفريقيا، خصوصاً بعد التحولات التي شهدتها كل من ليبيا والجزائر والسودان، وتنظيمه، كما كل الجماعات الإرهابيّة تراهن على الفوضى للتحرك بشكل أسهل، الأمر الذي من الضروري التنبه له.
المعركة اليوم، بحسب ما أعلن البغدادي، هي "معركة استنزاف جميع المقدرات: البشريّة، العسكريّة، الاقتصاديّة واللوجستيّة"، تذكر بالعودة إلى الأدبيّات التي كان يستخدمها زعيم تنظيم "القاعدة" السابق أسامة بن لادن، على عكس ما كان عليه الأمر مع بروز مؤسس "داعش" (عندما كان يُسمى الدولة الإسلاميّة في العراق) أبو مصعب الزرقاوي، وبالتالي يمكن القول إن المرحلة ستكون شبيهة بتلك التي طغت بعد هزيمة "القاعدة" في أفغانستان، حيث التركيز على عالميّة المعركة بدل حصرها في رقعة جغرافية معينة، وهنا يأتي حرص البغدادي على الإشارة إلى جنسيات مقاتليه الذين قتلوا في معاركه السابقة في سوريا.
على مستوى الشكل، كان من اللافت ظهور البغدادي في هيئة مقاتل على مستوى الهندام، بالإضافة إلى وضع بندقيّة حربيّة إلى جانبه، في رسالة بأنه في قلب المعركة بالرغم من أنّ ملامحه لا توحي بذلك، بعد أن ظهرت علامات السمنة على وجهه وجسده، وبدت بشرته نضرة، ما يعني أنه يعيش في أماكن غير مفتوحة.
وفي حين طغى على الجلسة التي كان يتحدث فيها الطابع العشائري، ما يوحي بأنه يريد أن يستعطف العشائر العربيّة في سوريا والعراق بطريقة أو بأخرى، كان من اللافت أن التنظيم أراد من خلال هذا الشريط أن يقول إن زعيمه يتابع أدق التفاصيل، من خلال تصفحه ما قد تكون تقارير، صادرة عن مؤسسة "الفرقان" التي تعتبر الذراع الإعلامية لـ"داعش"، عن أحوال "الولايات" التي ينشط فيها.
في المحصّلة، حدّد "داعش" عبر زعيمه قائمة أهدافه، أو أهداف من يقف خلفه، في المرحلة المقبلة، ويأتي على رأسها أفريقيا وتنفيذ عمليّات إرهابيّة في أيّ مكان من العالم، ما يؤكّد أن الانتصارات العسكريّة، التي سبق الإعلان عنها، لا تعني نهاية خطره، بل على العكس هو يريد الاستفادة منها للعودة بشكل أكبر وأخطر.