تغيير السياسات النقدية يتطلب تغييراً جذرياً في كل آليات العمل وفي الأشخاص القائمين على الأمر. لن تستقيم سياسة نقدية سليمة تقلص خسائر الناس والدولة وتقنّن أرباح المضاربين الماليين، سوى باستقالة رياض سلامة ومحاسبته على كل الأخطاء التي ارتكبها وإلغاء كل القوانين والتعاميم والقرارات التي اتخذها وأدت الى الأزمة القائمة.
مقالات مرتبطة
تغيير السياسات المالية يتطلب إبعاد كل الفريق (المتنوع طائفياً ومذهبياً) الذي حملته الحريرية الى الحكم منذ ربع قرن الى الآن، ومحاسبته، وإدخال تعديلات جوهرية على الوجهة وآلية إنتاج سياسات مالية ترتبط ببناء اقتصاد ينمو بطريقة طبيعية، ويكون الاستثمار فيه حقيقياً وفائدته عامة.
تغيير السياسات الاقتصادية يتطلب إبعاد كل الوحوش المسيطرة على المؤسسات الكبيرة والقائمة على شراكات مشبوهة داخل الدولة وخارجها ومع المؤسسات العالمية والإقليمية، كما يتطلب إبعاد القطاع الخاص (بقيادته الراهنة) عن طاولة البحث عن تصور للاقتصاد الأنسب لحال البلد وإمكاناته وواقعه الإقليمي.
تغيير العقلية في إدارة القطاع العام، يتطلب إبعاد كل القوى السياسية التي تمسك الآن بمفاصل القرار في الدولة، سواء تلك التي ظلت موجودة من خمسين سنة الى الآن، أو تلك التي دخلت بقوة بعد توقف الحرب الأهلية، وهذا يشمل كل القوى السياسية من دون استثناء. وما يمكن أن يكون قاسياً، أن العلاج هذا قد يستثني حزب الله والقوات اللبنانية (الى حدود معينة)، لكنه لم يعد يستثني التيار الوطني الحر. وببساطة شديدة، يجب إبعاد كل رجالات هذه القوى المزروعين في كل مفاصل الدولة المدنية والعسكرية والرقابية والقضائية ومحاسبتهم على أفعالهم حتى يستقيم الأمر.
ولأن هذا التغيير لن يحصل، ولأن الناس لا يزالون يفوّضون معظم هذه القوى والشخصيات إدارة مصيرهم، فهذا يعني أن من يتوقع تغييرات كبيرة هو واهم أو مخبول، أو مصاب بعوارض السحَرة.
وعليه، فإن النقاش النقدي مع الحكام، اليوم، لا يمكن أن يتجاوز، من ضمن قواعد اللعبة المعمول بها، سوى رفع الصوت للقول بأن ما تقومون به ليس سوى أقل من الواجب، وأنه مهما فعلتم، فأنتم لا تستحقون الشكر، بل يجب أن تبقى الشكوك محيطة بكل ما تقومون به.
أما الذين يتعبون من الصراخ والأنين، فليس بإمكانهم القول بأن هناك من يمنع التغيير. ليس في تجارب شعوب العالم من يقدر على القول بأن هناك متن يمنع التغيير. السلطات كافة، وبطبيعتها ترفض التغيير وتقاومه وتعمل على منع حصوله، لكنها تجبر على الأخذ به متى ارتفع مستوى الضغط من الشارع الى حدود التهديد بهدم المنزل فوق رؤوس الجميع. وهذا ما هو غير متوافر في لبنان. هذا البلد العجيب، الذي لا يريد أهله تغيير سلوك حياتهم وأن يخففوا الإنفاق لأن عائداتهم صارت أقل، ولا يريد رجال أعمالهم تقليص نسب الأرباح حتى يظل هناك من يبيع ومن يشتري، ولا يريدون الذهاب الى العمل مثل بقية الخلق، ويتذمرون من كل شيء حولهم. ولا يتوقفون عن نبش وتعزيز العصبيات الطائفية والمذهبية وهم يعتقدون بأنها تقيهم شر الانهيار الكبير.
من لا يجد نفسه قادراً على تحمّل تعسف النظام، ليس أمامه سوف التفكير بنوع العنف الذي سيلجأ إليه
المؤسف أنه لا وجود لأي مؤشر، علمي أو غير علمي، يقول بأن لبنان مقبل على تغيير جوهري يعيد فتح الباب أمام تحوله الى بلد طبيعي. وأن الضغوط الخارجية التي يمارسها الغرب وعملاؤه من العرب واللبنانيين، لا توحي بأن لبنان متروك ليدير أموره بنفسه. كما أن الاعتراضات القائمة لا تزال في إطار خجول جداً، وخجول أكثر مما هي حال التعب. وبالتالي، فإن السلطات لا تخشى هذا النوع من الاعتراضات. ولا تسعى الى تغيير في سياساتها.
وهذا كله يؤدي الى خلاصة قاسية، وهي خلاصة يرفض الناس الإقرار بها، كما يرفض أهل الربط والعقد في الأحزاب وفي السلطة التعامل معها على أنها احتمال قوي. وهي خلاصة تقول بأنه عندما تتعذر آليات التغيير الطبيعية، فالجميع يلجأ الى ما يوصف اليوم بالأعمال المارقة، أي العنف المتفلت من أي قواعد وأي رقابة وأي محاسبة. وهو عنف لم تظهر ملامحه في لبنان بعد. بل يقتصر الأمر، على مجرد احتجاجات يقوم بها أفراد لا تنتهي الى نتيجة عامة. بينما العنف الآتي، هو العنف الذي يكسر حلقة الأمان وحلقة الاستقرار، ومعه لا يبقى معنى لأي ربح أو فائض أو تقشف. ومع تطوره، لا يبقى من الدولة سوى هيكل مترهل لزوم ما لا يلزم. وهو عنف حاصل من حولنا في الكثير من دول العالم. وكلما تعاظم جبروت الرجل الأبيض الذي يمثله دونالد ترامب اليوم، سوف يتعاظم اعتلال النفوس قبل الانفجار الكبير.
في لبنان اليوم، حكومةً وشعباً ومؤسسات، ليس ثمة من يراهن على أنه سيقود معركة التغيير الحقيقية. وبالتالي، فإن من لا يجد نفسه قادراً على تحمل تعسف هذا النظام، فليس أمامه سوف التفكير بنوع العنف الذي سيلجأ إليه لتحصيل بعض حقوقه.
العنف، صار طريقاً إلزامياً للتغيير!