على أهمية الجولة التي قام بها وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل في قضاء جبيل خلال عطلة نهاية الأسبوع، والمواقف التي أطلقها خلالها، على غرار الجولات المناطقية التي يقوم بها بين الفينة والأخرى، فإنّ "الهدية" التي تلقاها من "حزب الله" خلال زيارته بلدة رأس أسطا الشيعيّة خطفت كلّ الأضواء، واستحوذت على كلّ الاهتمام إعلامياً وسياسياً.
سريعاً، وجد خصوم باسيل في "القذيفة" التي تسلّمها الأخير من الحزب، مادة دسمة للتصويب على الرجل، بل لاعتبار مجرّد قبوله الهدية الصاروخيّة بمثابة إهانةٍ للدولة اللبنانيّة وتعريضٍ لمصالحها الدوليّة للخطر، خصوصاً في ضوء التزامن بين "الحدث" وتقريرٍ للأمين العام للأمم المتحدة جدّد فيه المطالبة بنزع سلاح "حزب الله".
وإذا كان لافتاً قيام باسيل بتحويل "القذيفة الفارغة" إلى "مزهريّة" في رسالةٍ بالغة الدلالات، ثمّة من يعتبر أنّ وزير الخارجية "أحرِج" فعلاً من جانب حليفه، خصوصاً أنّ الأخير كان قادراً على توجيه رسائل الدعم والتقدير له، إن وُجِدت، بأساليب أخرى، أقلّ "استفزازاً" للخصوم...
هدية "غير بريئة"؟!
صحيحٌ أنّ الحلف بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" ليس جديداً ولا مستجدّاً، وأنّ العلاقة بين الجانبين تبدو في مكانٍ ما أنموذجاً في العلاقات بين أيّ حليفيْن على الساحة اللبنانية، إلا أنّ ذلك لا يمنع خصوم الجانبيْن من التصويب عليهما بين الفينة والأخرى لاعتباراتٍ وحساباتٍ كثيرة، لعلّ أهمّها "تحدّي" المجتمع الدوليّ، بل "استفزازه" في مكانٍ ما، وصولاً إلى حدّ تعريض مصالح لبنان للخطر.
من هنا، فُسّرت الهدية التي أهداها مسؤول المنطقة الخامسة في "حزب الله" الشيخ محمد عمرو إلى "معالي الوزير المقاوم جبران باسيل" كما كُتب على القذيفة التي كان الحزب استخدمها في معركة جرود عرسال العام 2017، على أنّها فصلٌ آخر من المواجهة مع هذا المجتمع الدولي، بل رسالة "غير بريئة" أراد "الحزب" إيصالها إلى جهاتٍ عدّة، في الداخل والخارج على حدّ سواء.
ولعلّ ما عزّز هذا "المنطق" لدى خصوم "الحزب" و"التيار" تمثّل في "التوقيت"، بعد ساعاتٍ على كشف مضمون التقرير نصف السنوي للأمين العام للأمم المتحدة، والذي لم يجدّد فيه المطالبة بنزع سلاح "حزب الله" فحسب، بل اعتبر أنّ "استمرار حزب الله في امتلاك وسائل عسكرية متطورة خارج سيطرة الدولة اللبنانية يثير قلقاً كبيراً"، وشدّد على "ضرورة احتكار الدولة اللبنانية امتلاك الأسلحة واستخدام القوة".
وإذا كانت مفارقة مثيرة للجدل أن يأتي الردّ الأول على التقرير بأن يتسلّم وزير الخارجية اللبناني علناً هدية صاروخية من "الحزب"، بدل أن يقوم بتشجيعه على تسليم سلاحه إلى الدولة، كما جاء في التقرير، فإنّ الرسالة برأي الخصوم، تبدو "مزدوجة"، بل إنّ شظاياها تصل إلى الولايات المتحدة، في عزّ العقوبات المُعلنة على إيران، ومن خلفها "الحزب"، وكأنّ هناك من لم يكتفِ بالسلبيّة التي خلصت إليها الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى لبنان، ويسعى إلى توتير العلاقة أكثر وأكثر.
الهديّة لا تُرفَض...
وسط كلّ المعمعة التي أثارتها هدية "حزب الله" إلى باسيل، كان لافتاً حرص الأخير على "الصمت"، مقتدياً ربما بالاستراتيجية التي يعتمدها "الحزب" دوماً، وإن لاحظ كثيرون أنّ باسيل تعمّد عدم نشر أيّ صورة للقذيفة، بخلاف هدايا أخرى تلقاها خلال جولته الجبيلية، إلا بعدما حوّلها إلى "مزهرية"، في ردّ غير مباشر على الانتقادات التي طاولته.
وإذا كان باسيل نجح بهذه الخطوة إلى حدّ ما بتلقف "الكرة" وعدم الانجرار إلى المهاترات، فإنّ محسوبين على "التيار الوطني الحر" يعتبرون أنّ الأبعاد التي أعطيت لهدية "الحزب" مضحكة مبكية في آنٍ واحد، باعتبار أنّها جاءت مضخَّمة ومبالَغاً بها إلى حدّ بعيد، وأنّ الأمر لم يكن يستحقّ كلّ هذه التحليلات الدونكيشوتية الفارغة من المضمون أصلاً، والتي إن دلّت على شيء، فعلى "إفلاس" الخصوم، الذين باتوا يبحثون عن أيّ "ثغرة" للنفاد منها، لعلّهم ينجحون في تحقيق أيّ "خرق".
وسواء كان الوزير باسيل مرحّباً بالهدية، التي حرص "حزب الله" على منحها "رمزية" باعتبار أنّها استُخدِمت في معركة جرود عرسال، التي لقيت شبه إجماع داخلي، وليس أيّ معركة أخرى، أو قبلها من باب "الإحراج" ليس إلا، فإنّ أحداً لا يمكنه أن يتوقّع ردّة فعلٍ مخالفة منه، خصوصاً أنّ الأدبيات واللياقات كلّها تجمع على أنّ الهدية لا تُرفَض أياً كانت، خصوصاً إذا كانت من حليف وصديق، وأهالي جبيل يدركون هذه الحقيقة قبل غيرهم، بعيداً عن بعض "البطولات الوهميّة" التي حاول البعض استعراضها، في الزمان والمكان غير المناسبيْن.
وإذا كان بعض خصوم باسيل أدخلوا "الهدية" في بازار الانتخابات الرئاسية، معتبرين أنّ قبول باسيل بها وعدم التفوّه بأيّ كلمة اعتراض يمثّل في مكانٍ ما "إذعاناً" منه إلى "الحزب"، يندرج في إطار سعيه للحصول على دعم الأخير في السباق الرئاسي المقبل، واستعداده لدفع أيّ ثمن للحصول عليه، فإنّ المحسوبين على "التيار" يعتبرون أن مطلقي هذا الكلام أنفسهم لا يقتنعون به، خصوصاً أنّ حلفاً عميقاً يجمع بين الجانبين، وهو ليس وليد ساعته، ولا مرتبطاً باستحقاقٍ من هنا أو هنالك، وبالتالي فإنّ المُستغرَب ليس ردّة فعل باسيل، بل ردّة فعل الآخرين، غير المفهومة بأيّ شكلٍ من الأشكال.
"سطحيّة" وأكثر...
قد يقول قائل إنّ اختيار "حزب الله" لقذيفة صاروخية، ليعبّر عن تقديره إلى الوزير باسيل، ليس "بريئاً"، بالنظر إلى حساسيّة الساحة الداخلية وخصوصيّتها، ولو أنّ الحزب ممّن يعتبرون أنّ السلاح قد يكون أهمّ الهدايا وأكثرها قيمةً.
وقد يقول آخر إنّ قبول باسيل بالهدية، على رغم كونه وزير خارجية لبنان، المُطالَب دولياً بالضغط على "حزب الله" لتسليم سلاحه، لا توزيعه كهدايا، لم يكن موفَّقاً، ولو أحرِج الرجل، من باب "الموْنة"، والعلاقة المتينة مع "الحزب".
بيد أنّ الأكيد بين هذا وذاك أنّ السجال الذي نشب حول الموضوع يبقى عيّنة أخرى عن "سطحيّة" لا تزال تطبع الكثير من المقاربات الداخلية، في وقتٍ على اللبنانيين الابتعاد عن "القشور" للبحث في "الجوهر"، في بلدٍ مهدَّدٍ بالانهيار، وربما ما هو أبعد من ذلك...