أحيّت نقابة محرّري الصحافة اللبنانيّة، اليوم العالمي للصحافة، بندوة بعنوان: " حريّة الصحافة بين القوانين والممارسة"، أُقيمت في قاعة المؤتمرات في بلديّة الحازميّة، وشارك فيها، الوزير السابق زياد بارود ومدير البرنامج في الإتحاد الدولي للصحافيين الأستاذ منير زعرور والدكتور لويس حنينة وعضو مجلس النقابة الأستاذ واصف عواضة، وأدارها الخبير الإعلامي الأستاذ كميل منسّى. وقد رفعت في القاعة صورًا لشهداء الصحافة في لبنان.
بارود ألقى كلمة بالمناسبة رأى فيها ان "لم نعد نحاكم على ما نكتبه، بل ربّما على ما لم نكتبه، وعلى ما فكّرنا في كتابته بعدما حلمنا به خلال الليل! لم نعد نحاكم ونحاسَب على ما نقوله، بل ربّما على ما يعتقدون أنها كانت نيّاتنا ولم نقلها لسبب أو لآخر! تُرى، ماذا يحصل في لبنان؟ ولماذا هذا الجنون وهذه "الهستيريا" لدى المجتمع ؟" (جبران تويني، 26/9/2002)
ولفت بارود الى ان هذا الكلام لمن بات واحدا من شهداء الصحافة، لا يزال صالحا بعد سبعة عشر عاما على حبره. لماذا؟ بكل بساطة لأن الشرخ بين الحق الدستوري والواقع المعاش لا يزال قائما لمصلحة حفنة من الحاكمين بأمرهم، بمنأى عن أية محاسبة، بل أحيانا بغطاء قانوني مؤسف.
وشدّد بارود على ان الدستور اللبناني (الذي وضع عام 1926) يكرّس حرية التعبير في المادة 13 منه التي نصّت عىل الآتي: "حرية إبداء الرأي قولا وكتابة، وحرية الطباعة وحرية الإجتماع وحرية الجمعيات كلّها مكفولة ضمن دائرة القانون"
لكنّ هذا "القانون" غالبا ما كان يأخذ بيد، ما أعطاه الدستور بيد. فالمادة الأولى من قانون المطبوعات، مثلا، نصّت على أن "المطبعة والصحافة والمكتبة ودور النشر والتوزيع حرّة، ولا تقيّد هذه الحريّة إلاّ في نطاق القوانين العامة وأحكام هذا القانون". وبذلك، جاء التقييد بموجب عدد من القوانين التي أفرغت الحرية من معناها، وهي قوانين حظّرت على المطبوعات نشر كمّ من المعلومات والمعطيات، تحت طائلة الملاحقة القضائية، وإذا كان من غير الممكن تعداد كل تلك القوانين هنا، فإن أبرزها هي الآتية:
- المرسوم الإشتراعي رقم 55 تاريخ 5/8/1967 المتعلق بالمناشير والبيانات والبلاغات التي لا تنشر في المطبوعات الدورية والتي يحظّر طبعها وإصدارها قبل الحصول على ترخيص مسبق.
- المرسوم الإشتراعي رقم 1 تاريخ 1/1/1977 الذي أخضع جميع المطبوعات لرقابة الأمن العام المسبقة، مع حق إلغاء المضمون كلياً أو جزئياً. وقد ألغي هذا النص بالقانون رقم 14 تاريخ 25/2/1986.
- قانون القضاء العسكري الذي كان يعطي المحكمة العسكرية صلاحية النظر بجرائم المطبوعات. وقد ألغيت هذه الصلاحية عندما أنيطت، حصرياً، بمحكمة المطبوعات، بعد قانون 1962.
وأضاف ان الرقابة الأهم على الصحف (وعلى المطبوعات الدورية، عموما) تبقى تلك التي تمارس بالإستناد إلى طبيعة المواد المنشورة، بحيث يبدو أن المشترع قد أبقى على حق "الإقتصاص" من الصحيفة التي تنشر مادة غير مرغوب فيها، كأن تنشر محاضر مجلس الوزراء أو تفاصيل التحقيق الأولي في ملف قضائي، مثلا. وفي ذلك ضرب لحق الحصول على المعلومات (freedom of information)، وهو حق دستوري كانت كرّسته المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بصورة غير مباشرة عندما نصّت على أنه "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق حرية إعتناق الآراء من دون أي تدخل، وإستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأية وسيلة من دون التقيّد بالحدود الجغرافية ". كان ذلك عام 1948، قبل ثورة المعلومات والإنترنت والفضائيات. وقد تكررّ المبدأ عينه في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 الذي انضم إليه لبنان عام 1972. وقد صدر قانون حق الوصول إلى المعلومات بعد نضال طويل: هذا نصف الكوب الملآن، أما النصف الآخر فآلياته التطبيقية المنتظرة.
وأشار بارود الى ان يمكن تصنيف المعلومات ضمن فئات ثلاث:
- المعلومات المحرّمة: وهي تشمل المعلومات المتلعقة بأسرار الدفاع، والمعلومات المرتبطة بالتحقيق الأولي أمام النيابات العامة وقضاة التحقيق، والمعلومات المرتبطة بالفرد في حياته الخاصة الشخصية (المعلومات الطبية، المعلومات ذات الطابع الحميم ...)
- المعلومات المقيّدة: وهي معلومات لا يمكن الإطلاع عليها (وبالتالي نشرها) إلا ضمن شروط معينة، وتشمل: المعلومات المرتبطة بالسرية المصرفية المعلومات "العدلية" والشخصية (سجل عدلي، أحوال شخصية)، وعموما المعلومات التي لا يمنع القانون الإطلاع عليها عليها إذا أثبت طالبها أن له صفة أو مصلحة في الحصول عليها.
- المعلومات المباحة: وهي المعلومات المعدّة أصلا لإطلاع الجمهور، وهي تتضمّن: المعلومات التي تؤمنها السجلات الرسمية (سجل تجاري، سجل عقاري ...)، والمعلومات التي ينص القانون على وجوب نشرها (موازنة بعض شركات القطاع الخاص، التفرغات التي تحصل في شركات الإعلام المرئي والمسموع)، ومنها بعض التقارير الرسمية (ديوان المحاسبة، التفتيش المركزي، مجلس الخدمة المدنية)
في بلد كلبنان تميّز بحرية الرأي وبحركة إعلامية رائدة في محيطه، تؤدي وسائل الإعلام والنشر دوراً أساسياً في تمكين (empowerment) المجمتع المدني في إطار المساءلة. وقد ساهمت تلك الوسائل في مواكبة الأداء السياسي والإداري والمالي والخدماتي وأتاحت للبنانيين إمكان الحصول على المعلومات. وقد مارست الصحافة هذا الدور بإمتياز، على الرغم من القيود المانعة للنشر وعلى الرقم من القيود "التهويلية" التي تتمثل بالسيق المسلّط على أهل الصحافة والإعلام من خلال ما يعرف بجرمي القدم والذم. وبالفعل، فإن ما يحول بصورة أساسية دون تداول المعلومات هو نص عقابي يسمح بملاحقة صاحب المعلومة و/أو ناشرها دون أن يتمكن الأخير من تقديم إثبات صحتها رفعا للعقوبة. وفي تلك "وقاحة" تشريعية تصل إلى حد تمكين المرتكب من أن يلاحق، من يفضح إرتكابه، بدل أن يعتبر إثبات الأخير لصحة ما يقول بمثابة إخبار يحرّك النيابة العامة!
وشدّد بارود على ان أخطر ما تتعرّض له الصحافة اللبنانية من "رقابة مؤخّرة"، إذا صحّ التعبير، هو رقابة المحاكم التي يمنع عليها قانون العقوبات أن تتيح لمرتكب الذم، تبريرا لنفسه، أن يثبت حقيقة الفعل موضع الذم أو إثبات اشتهاره. هكذا حوكمت صحيفة النهار والصحافي نقولا ناصيف منذ سنوات في معرض نشر معلومات ترتبط بأداء أحد المسؤولين، على الرغم من إثبتات صحة المنسوب لهذا الأخير. وما كانت إلاّ أشهر قليلة حتى تغيّر الظرف السياسي ولوحق ذاك "المسؤول" بالإستناد إلى المعلومات ذاتها.
وقد حدا هذا الواقع بالعميد ريمون إده (وهو من السياسيين والبرلمانيين اللبنانيين المشهود لهم) أن يكتب من منفاه الباريسي إلى رئيس مجلس النواب، يوم كان المجلس يناقش قانون "الإثراء غير المشروع" ، مقترحا صرف النظر عن هذا القانون والإكتفاء، كبديل عنه، بتعديل المادة 583 من قانون العقوبات، بحيث ترفع العقوبة عن الصحافي الذي يثبت صحة ما يدّعي، إذا كان ذلك في إطار مصلحة عامة أو شأن عام[
وفي كل ذلك، تفرض وسائل التواصل الاجتماعي ذاتها على المشهد الإعلامي. "المحررون" فيها ليسوا بالضرورة منتسبين إلى النقابة ولا هم حتى من أهل الصحافة. كلّ يغني على تغريدة أو "بوست"، بحيث بات الفضاء السيبيري مساحة تعبير لا حدود لها. هل نذهب إلى قوننتها؟ برأيي أن لا. جلّ ما يمكن تنظيمه هو حدود القدح والذم والتحقير. وما سوى ذلك... فضاء!
وختم بالسؤال ان لماذا هذا الحرص على حرية الصحافة وعلى "رفع الحصار" عنها؟ ولماذا الحرص على ولوج آليات قانونية وتشريعية ترفع الرقابة عن الصحف؟ ببساطة كلية: لأن دور صاحبة الجلالة، بالإضافة إلى دورها في تسهيل حق الإطلاع، هو السعي إلى تسهيل الــ "لا" التي كتب عنها عام 1949 المفكر ميشال شيحا، أحد أباء دستورنا، قائلاً: " في أكثر البلاد تقدّما، ينصاع الناس بحرص ويخضعون بدقّة لأنظمة شديدة. ولكن تلك البلاد هي التي يعرف فيها الناس كيف يقولون "لا"، بالقدر الأكبر من القوة ورباطة الجأش"...
وكانت كلمة للإعلامي كميل منسّى لفت فيها الى ان اليوم هو "اليوم العالمي لحرية الصحافة" الذي أعلنته الأونسكو عام 1991 وخصصته الأمم المتحدة مذ زاك التاريخ للأحتفاء بالمبادئ الأساسية للإعلام وتقويم وضع الصحافة وتعريف الناس بانتهاكات حرية التعبير وتوجيه تحية الى الصحافيين الذين استشهدوا أو واجهوا الموت أو السجن في سبيل قيامهم بعملهم فكانوا شهداء الكلمة الحرّة.
وكشف ان لهذا اخترنا لندوة اليوم موضوع "حرية الصحافة بين القوانين والممارسة" يشارك فيها رجال قانون ورجال إعلام وممثلو منظمات دولية تعنى بالحريات ولاسيما منها الإعلامية.
وأضاف ان في المبدأ وُجِدت القوانين لحماية الدولة والأفراد، وتالياً لا الدولة تقمع حرية التعبير ولا الأفراد يخدمون أغراضهم الشخصية بإسم الحرية. ولا يسمح بالحدّ من حرية التعبير إلّا لحماية الأمن القومي (شرط تحديد مفهوم الأمن القومي بحيث لا يكون مطاطاً اكثر مما ينبغي). هذا ما يجري في الدول العريقة بالديموقراطية وبإحترام حرية التعبير.
فممارسة حرية الصحافة تتطلب تشريعات وقوانين تحمي هذه الحرية ومجتمعاً يدافع عنها. مؤكدا ان في لبنان ليست الدولة وحدها المسؤولة عن الخطوط الحمر المفروضة على الحريات الإعلامية، فهناك القوى العاملة على الأرض، و صاحب الوسيلة ألإعلامية غالباً ما ينتمي الى تيار سياسي أو الى حزب أو الى طائفة ويتباهى بتسخيرها لخدمة من ينتمي اليه على حساب حرية الكلمة واحترام القارئ والمستمع أو المشاهد.
ودعا منسّى كي تستقيم الأمور، ان لابد من ان نُعيد الى الحريات المكانة التي لها قانوناً وعلى الأرض. من ذلك إعادة النظر في بعض مواد القوانين المتعلقة بالإعلام وخصوصاً في طريقة تطبيقها. وأن يكفّ الحكام عن اعتبار الإعلام امتداداً لسلطتهم. وأن يكفّ بعض العاملين في الإعلام عن إعتبار السلطة مصدراً لرزقهم وسبيلاً لتحسين وضعهم الإجتماعي.
ومن ذلك أيضاً ان يكفّ الإعلامي بوجه عام عن إعتبار نفسه مسؤولاً أمام رجال السلطة الذين يتناولهم في كتاباته، وأن يكون مسؤولاً أمام القراء الذين يتوجه إليهم. مشددا على أن أقصى طموحنا جميعاً أن تتبلور حرية التفكير في حرية التعبير كي نصل الى حرية التغيير الذي نحلم به. مؤكدا ان حرية الصحافة هي الخطوة الأولى على طريق التغيير، ليست مسؤولية السلطة وحدها ولا الصحافي وحده. انها مسؤولية المجتمع برمته، وهنا تبرز أهمية المجتمع المدني الذي إذا إتحد صان نفسه من كل الضغوط التي تمارس عليه.
وفي ختام الندوة شكر نقيب محرّري الصحافة اللبنانيّة الأستاذ جوزف القصيفي المشاركين في إحياء اليوم العالمي لحريّة الصحافة في لبنان وخصّ بالشكر الإتحاد الأوروبي ومكتب اليونسكو الإقليمي في بيروت والإتحاد الدولي للصحافيين وممثلي القيادات العسكريّة والأمنيّة والحزبيّة والآكاديميّة وبلديّة الحازميّة وكل الزملاء الذين لبّوا دعوتنا وأثروا اللقاء بحضورهم.