احتل الحراك الشعبي للإنقاذ منذ تنظيم الحزب تظاهرة السادس عشر من كانون الأول من العام الماضي ــــ تحت شعار «معاً إلى الشارع للإنقاذ في مواجهة سياسات الانهيار» ــــ مروراً بالاعتصامات والتحركات المتعاقبة التي توّجت بتظاهرة الأول من أيار وبالاعتصام التحذيري الذي تلاها في ساحة رياض الصلح، حيّز الصدارة في مواجهة الالتزامات المقدّمة من الحكومة أمام الدول المانحة في مؤتمر سيدر واحد، والتي جرى ويجري تسويقها كإجراءات «إصلاحية»، في الوقت الذي لم تختلف في الجوهر عمّا سبقها من بنود مؤتمرات باريس 1 و2 و3. وقد رسّخت هذه الالتزامات أسسَ السياسات الاقتصادية ــــ الاجتماعية الرسمية المستمدّة من النمط الاقتصادي الريعي التابع، الذي أوصل البلد إلى حافّة الانهيار وشكّل أداةً من أدوات ارتهان قرارنا الوطني والسياسي والاقتصادي للضغوط الأميركية والغربية.
وإذ يندرج البعد الخارجي لمشروع موازنة عام 2019 التقشفية في إطار التطبيق العملي للتوجهات الليبرالية لمقررات مؤتمر سيدر، فإننا نعتبر أن مواجهة هذه التوجهات هي في الوقت عينه بمثابة مواجهة لمقررات هذا المؤتمر بالذات ولمهندسيها في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين يجسّدان الأذرع الاقتصادية والمالية التي يمارس عبرها المشروع الإمبريالي الأميركي والغربي ضغوطه وتدخلاته كافة على الشعب اللبناني وعلى سائر الشعوب العربية، بغية إخضاعها لشروط التسليم بمندرجات صفقة القرن وترسيخ آليات التبعية واستمرار نهب ثروات المنطقة.
أما البعد الداخلي لهذه المواجهة فيتمثّل في التصدّي للسياسات الاقتصادية الاجتماعية للحكومات التي لا يزال التحالف السلطوي ــــ المالي متمسّكاً باستنساخها من رحم النمط الاقتصادي الريعي السائد والمحتضن من قبل النظام السياسي التبعي القائم على المحاصصة الطائفية وعلى الفساد السياسي والمالي، والذي رتّب مئة مليار دولار ديناً عامّاً على الشعب اللبناني، مع العلم بأن هذا الدين مرشّحٌ للازدياد أكثر فأكثر كلّما بقي ذلك النظام وسلطته الفاسدة. وإذا كانت الوجهة العامة لهذه السياسات ترمي إلى المسّ بما تحقّق من إنجازاتٍ متواضعةٍ لمصلحة فئاتٍ من أصحاب الدخل المحدود العاملين داخل القطاع العام وخارجه، فإن الجانب المخفي منها هو القضاء على آمال هذه الفئات في السعي لتحسين وضعها المعيشي، عبر حصر الدفاع عن حقوق كل منها بما يؤدي إلى شرذمة صفوفها وقطع الطريق أمام توحيدها لفرض تغيير في السياسات الاقتصادية والاجتماعية يؤمّن لها جميعاً الدخل اللائق والخدمات العامة والاجتماعية العصرية.
ولأننا مقتنعون بترابط هذين البعدين للمواجهة (الخارجي والداخلي) فإن أهداف سياسات الموازنة لا تقتصر فقط على مجرّد الحدّ من العجز المالي، بحسب ما يروّجه مؤتمر سيدر، بل تتعدّاها لتحقيق أهدافٍ أخرى سياسية الطابع وذات الصلة بالهجمة الإمبريالية على المنطقة عبر تخيير لبنان: بين المزيد من الضغوط والعقوبات والتهديد بإدخاله في النفق المظلم للتفجير الداخلي وتعميم الفوضى الشاملة، وبين «انتظامه» في الخط السياسي المطلوب أميركيّاً؛ أي تخييره بين وجوب «النأي بالنفس والابتعاد عن صراعات المنطقة» والموافقة على صفقة القرن كشرط لتنفيذ «الوعود» بأموال سيدر وتدفق الاستثمارات الخارجية. من هنا، يفترض بمن يقف في مواجهة صفقة القرن، أن يقف في مواجهة موازنة سيدر بوصفها أحد مجالات الهجمة لتطبيق الصفقة في الجانب المتعلق بلبنان، ولا سيّما أن ما سوف يلي إقرار الموازنة يتضمّنُ إطلاق مشاريع الخصخصة وتصفية ما تبقّى من الوظيفة العامة لمصلحة أنساقٍ هجينة من العمل في القطاع العام ترسّخُ تبعية النظام السياسي وتعمّقُ ارتهانَ القرار الوطني للمصالح الغربية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السياسة العدوانية الأميركية ليست بجديدة، إذ جرى تطبيقها على الأنظمة العربية منذ تسعينيّات القرن الماضي، عبر تشجيعها على اعتماد سياسات نيوليبرالية تحت شعار الانفتاح الاقتصادي وحرّية الأسواق، مع العلم بأن معظم الأنظمة انصاعت لتلك السياسات، بما فيها الأنظمة الممانعة للمشروع الأميركي. وفي موازاة ذلك، يجب الاعتراف بأن الحركات النقابية الملتحقة بالأنظمة القائمة لم تحرّك ساكناً، ومن تحرّك منها جرت مواجهته بقمعٍ لا مثيل له من قبل أجهزة السلطة والقوى النقابية «الرسمية»، التي وقفت ضد التحركات الشعبية وعملت على ضرب وحدتها (كما جرى مثلاً في لبنان بشكل خاص). وهذا ما سهّل للسياسات النيوليبرالية دفع شعوبنا العربية نحو المزيد من التشظّي والإفقار، الأمر الذي شكّل أحد الأسباب الرئيسة لتفجّر الانتفاضات الشعبية العربية تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». بيد أن هذه الانتفاضات اقتصرت على إسقاط «الرؤوس» مع بقاء الأنظمة ذاتها، بعدما تمكّنت الإمبريالية ــــ بالتحالف مع القوى الرجعية والبورجوازيات الطفيلية المترسّخة ــــ من الالتفاف عليها وتصعيد هجمتها على كلّ من فلسطين وسوريا والعراق واليمن، وكذلك على لبنان لاستكمال تنفيذ مشروعها الشرق أوسطي.
لكن الجديد الذي نشهده اليوم هو تجذّر نمط آخر من المواجهات والانتفاضات الشعبية المحكومة ببرامج إصلاحية واضحة ومحدّدة وبدور ملحوظ للقوى اليسارية فيها، مع محاولة الاستفادة من دروس الانتفاضات التي سبقتها. ولم يقتصر هذا النمط الجديد من الانتفاضات على إطاحة رئيسَي الجزائر والسودان بوتفليقة والبشير، بل بقي مستمرّاً ومتصاعداً من دون توقف، ولنا في التجربة السودانية، التي يؤدي الحزب الشيوعي السوداني دوراً بارزاً فيها، مثالٌ ساطع على ذلك.
وفي هذه المرحلة التاريخية عينها، خاضت الحركة النقابية اللبنانية أشدّ المعارك السياسية والمطلبية ضراوة، وكان للحزب الشيوعي اللبناني ولقواه النقابية دورٌ بارز فيها. وبسبب مواقفه الصلبة في هذه المعارك، جرى التآمر على الحركة النقابية وعلى دور الحزب ومواقعه داخل الاتحاد العمالي العام وهيئة التنسيق النقابية، واليوم نقول: كما تمكّن الحزب تاريخيّاً من بناء النقابات العمالية، وصولاً إلى قيام الاتحاد العمالي العام، ومن بناء رابطات الأساتذة والمعلمين، وصولاً إلى إطلاق هيئة التنسيق النقابية، ومن تأسيس النقابات المهنية وغيرها من الروابط الطلابية، وصولاً إلى تشكيل الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، مجسّداً دوره القيادي في تحقيق ما تحقق من إنجازات، إن الحزب لقادرٌ اليوم على مواجهة التحدي الكبير الذي لن يتردد الشيوعيون في قبوله، فيتمكّنوا من بناء «الحراك الشعبي للإنقاذ» كإطار منظّم للحركة الشعبية، مستندين إلى أن القضية، قضية إنقاذ شعب وإنقاذ وطن، قبل أن تكون قضية مطلبية تخص هذا القطاع أو ذاك، وإلى أن الحقوق هي ملك أصحابها لا ملك المتاجرين بها، وإلى كون حزبهم لا يزال يعكس نبض الشارع ويمتلك المبادرة والقدرة على التحرّك والمواجهة، وتلك مهمة مطروحة أمام الشيوعيين، وهي واضحة وملموسة وتمثل فعل مقاومة وطنية وسياسية واقتصادية ــــ اجتماعية على طريق التغيير الديموقراطي. وكلّما طاولت هذه المواجهة أدق التفاصيل في مشروع الموازنة وغيره من سياسات ومشاريع، كانت أشدّ فعلاً وأكثر شمولاً للسقوف كافة، السياسية منها والنقابية والشعبية. والمطلوب كي يرسّخ الحراك الشعبي أقدامه في هذا المضمار، أن يوسّع نطاق انتشاره المناطقي والجغرافي (داخل المدن وفي الأرياف) وينظّم صفوفه القاعدية في لجان شعبية، كي يسهم بصورة فعّالة في بناء حركة شعبية قادرة على تعديل موازين القوى السياسية والاجتماعية على المستوى الوطني.
لا بدّ من توسيع الحراك والعمل باتجاه عقد مؤتمر وطني للإنقاذ وإطلاق برنامج تحرك تصعيدي متدرج
إن توحيد رؤية قوى الحراك الشعبي حول فهم مستويات المواجهة إزاء مشروع الموازنة التقشفية يعتبر ذي أولوية، لأن هذه المواجهة مرشّحة للتفاعل أكثر فأكثر في المرحلة المقبلة، نظراً إلى أن المعركة لن تنتهي بإقرار الموازنة، بل هي ستتصاعد يوماً بعد يوم مع استمرار تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية ــــ الاجتماعية، وبالتزامن مع شروع الحكومة والمجلس النيابي في السير لتنفيذ توجّهات مؤتمر سيدر. ونتطلع إلى أن ينعكسَ توحيدُ هذه الرؤية ليتبلور برنامجاً يشمل كل العناوين والمجالات: سواء على المستوى الوطني والعسكري تحريراً لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من بلدة الغجر، والوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية التي تتصدى اليوم للعدوان الصهيوني في غزة الهادف أيضاً إلى تطبيق صفقة القرن بالحديد والنار؛ أو على المستوى السياسي ضد نظام الاستئثار الاجتماعي والمحاصصة السياسية الطائفية والمذهبية والفساد والاستزلام، وصولاً إلى التحرّر من التبعية والوصايات الخارجية؛ أو على المستوى الاقتصادي بالتصدي للنمط الاقتصادي الريعي الراهن وتوصيات مؤتمرات الاقتراض الخارجي ومشاريع الموازنات الملتبسة، لا بل المشبوهة.
بناءً على ما ورد، لا بدّ من توسيع الحراك والعمل باتجاه عقد مؤتمر وطني للإنقاذ وإطلاق برنامج تحرك تصعيدي متدرج، في المناطق والقطاعات، لطرح البدائل الإصلاحية التي طرحها الحزب والحراك الشعبي للإنقاذ كأساس للحلول وتفادي خطر الانهيار، ويتضمّن عقد الندوات واللقاءات والاعتصامات والتجمعات والمسيرات السيّارة والتظاهرات المتنقلة وغيرها، أمام مراكز التلوث البيئي والهدر والفساد والبنك المركزي وجمعية المصارف الرافضة لإعادة المال العام المنهوب الذي كدسته المصارف أرباحاً طائلة... وصولاً إلى تتويج هذه الخطوات في المحطات المفصلية التي سيتقرر فيها مشروع الموازنة في مجلس الوزراء والمجلس النيابي، مؤكدين في الوقت عينه دعمنا لكل التحركات النقابية والشعبية في المناطق كافة، دفاعاً عن حقوق كل الفئات المتضرّرة، ومن أجل تحقيق مطالبها المحقّة.