لم يكن البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير شخصية عادية، أو من طبقة رجال الدين الذين يعبرون من دون ترك آثار كبيرة. تطوّره داخل السلك الكنسي كان أساسه شخصيته المرتبطة بالقيم التي تميز رجال الدين المسيحيين بعضهم عن البعض الآخر. لكن اجتهاده في الإدارة العامة لشؤون الرعية، أتاح له بناء موقعية قوية مكنته في لحظات تاريخية من احتلال موقع القائد. ورغم حرصه الدائم على عدم قول كل ما يريد أو كل ما يؤمن به، الا أنه ظل على الدوام في موقع القادر على جذب الانتباه، انتباه الخصوم والمؤيدين وحتى الضائعين، خصوصاً أنه بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، وإقصاء القيادات السياسية للاحزاب المسيحية، قبِل بدور القيادة الفعلية، وصار هو المرجعية التي تبت الأمور من دون قدرة الآخرين على تجاهل ما يقوم به.
لكن البطريرك صفير لم يكن محايداً كما يحلو للبعض القول، ولم يكن شخصية عامة تهتم لأحوال جميع اللبنانيين، أو حتى جميع أبناء الرعية بحسب القانون الكنسي. كان صفير صاحب موقف، ومنحازاً الى وجهة عامة تخص حال المسيحيين في المنطقة، وعلاقتهم بالعرب. وكان له موقفه من الصراع العربي ـــ الاسرائيلي، وكانت له رؤيته لآلية الحكم في لبنان. حتى عندما قبِل باتفاق الطائف، لم يكن يرى فيه ما يناسب مصلحة المسيحيين عموماً. لكنه قبِل وقال إن الاتفاق هو حصيلة سياسات الزعامات المسيحية التي لم تعرف إدارة الامور كما يجب.
كان صفير خصماً قوياً للتيار الذي يقول باندماج كلّي للبنان في واقعه العربي. وكان رافضاً لاستراتيجية انخراط لبنان في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الاسرائيلي. ولم يكن يوماً مقتنعاً بأن لبنان مضطر إلى بناء علاقات مميزة وخاصة مع سوريا. صحيح أنه لم يكن يفرق بين عرب المشرق والمغرب ولا عرب الجزيرة، لكنه اختار طريقة السياسيين في بناء تحالفات، جعلته أقرب الى المحور الذي ترعاه الولايات المتحدة وفرنسا ومعهما حلفاؤهما العرب واللبنانيون. لم يكن صفير معجباً بشخصية رفيق الحريري الآتي ليحل محل الدور الريادي لرجال الاعمال المسيحيين، لكنه وجد فيه حليفاً ضد الفريق المتحالف مع سوريا. صحيح أنه لم يكن يوماً معجباً بالزعامة الجنبلاطية، لا مع كمال ولا مع وليد، لكنه وجد أن مصالحة أبناء لبنان الصغير ضرورية في مواجهة تمدد أبناء الاطراف الى المركز.
كان صفير لا يمنح الشرعية الدينية لمعركة التحرير في وجه إسرائيل. وفي المقابل، كان يبرر تعامل فئة من اللبنانيين مع إسرائيل. كان يعتقد بأن ميليشيا العملاء في الشريط الحدودي، إنما هي جزء متبقّ من الحرب الاهلية. ولذلك كان ينظر الى سلاح المقاومة على أنه جزء متبقّ من سلاح قوى الحرب الاهلية. موقفه المبدئي لم يحل دون مد جسور الحوار والتواصل، لكنه لم يحد لحظة عن استراتيجية قامت على ثلاثة أعمدة:
- فك الارتباط القائم مع سوريا، وسلام مع إسرائيل ينهي النزاع ويُخرج اللاجئين الفلسطينيين من لبنان.
- إعادة تنظيم القيادة السياسية للمسيحيين، من خلال الإقرار بواقع قواهم كما هي، رغم أنه كان أقرب الى «فقراء الكنيسة»، ويقصد بهم «القوات اللبنانية» قبل الآخرين.
- إقامة لامركزية إدارية موسعة تسمح بحفظ الاختلافات بين «الجماعات اللبنانية»، من دون إلغاء مبدأ التعاون والتحالف مع الآخرين.
كان البطريرك صفير خصماً حقيقياً. مبدئيته جعلته الاكثر حضوراً بين القيادات المسيحية منذ صيغة الـ1943. كان رافضاَ، بالعمق، لكل فكرة تقوم على اندماج كامل للمسيحيين باعتبارهم مواطنين عرباً... رحل، وسيكون من الصعب توقّع وريث بصلابته!