بعد أيام من التظاهرات والاعتصامات التي نظمها "بالمفرّق" عددٌ من ممثلي القطاعات التي اعتبرت نفسها "متضرّرة" من مشروع الموازنة الذي تبحثه الحكومة، قرّر المجتمع المدني تلقّف الكرة، فنزلت مجموعاتٌ منه إلى الشارع، مُطلقةً تحرّكاً يُعتقَد أنّه لن يكون "يتيماً".
بدا المشهد بالنسبة لكثيرين مكرَّراً، بل نسخة عن "الحراك المدني" الشهير الذي شهده لبنان في العام 2015، وإن كانت الظروف، ومن خلفها الدوافع، مغايرة لما كانت عليه آنذاك، حين كان لبنان يعاني من أزمة نفاياتٍ شكّلت السبب المباشر للتحرّكات، وأعطتها الزخم المطلوب.
وإذا كانت أوجه الشبه عديدة من شكل التحرّك، إلى حجمه، مروراً بالشعارات المرفوعة فيه، تحديداً لجهة وصف السياسيين بـ"اللصوص"، ومحاولات منعهم من المرور، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه، هل يُكتَب له النجاح هذه المرّة إن صمد، أم أنّ الأخطاء نفسها، أو ربما الخطايا، ستقف حائلاً دون ذلك مجدّداً؟!.
إلى التصعيد؟!
متأخّراً نزل المجتمع المدني إلى الشارع إذاً، بعدما سبقه إليه كثيرون، بعضهم غادره بناءً على وعودٍ وتطمينات، وبعضهم لا يزال متمركزاً فيه، علماً أنّ اللائحة ضمّت إلى الآن، عسكريين متقاعدين وموظفين في مؤسسات الدولة المختلفة وأساتذة ونقابيين وآخرين.
متأخّراً نزل المجتمع المدني إلى الشارع، فيما الحكومة تكاد تسدل الستار عن موازنتها المثيرة للجدل، بإجراءاتها التقشفية القاسية الموعودة، والتي يُخشى أن تطال على جري العادة الموظفين من ذوي الدخلين المتوسط والمحدود، بخلاف كلّ ما يُقال، خصوصاً في ضوء ما يُحكى عن نقاشاتٍ جدّية تجري حول خفض الرواتب ورفع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة.
وإذا كانت مجموعات المجتمع المدني التحقت بالشارع، من دون أن تلتحق بمجموعات المتظاهرين الذين سبقوها، من خلال حرصها على أن يكون تحرّكها "مستقلاً" أو "منفصلاً" عنهم بشكلٍ أو بآخر، على رغم "التحفّظات" التي يطرحها البعض حول "الجدوى" من ذلك، فإنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ تحرّكها لن يكون "يتيماً"، بل أنّها أعدّت العدّة لسلسلة تحرّكات لن تنتهي مع انتهاء الحكومة من مناقشة الموازنة وإقرارها، بعد أن تنتهي الأخيرة من "شراء الوقت"، إن فعلت.
وتشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ الحراك المدني الذي باشرت مكوّناته ومجموعاته اجتماعات تنسيقية للاتفاق على "خطة" المرحلة المقبلة، يستعدّ لتكثيف تحرّكاته بعد إقرار الموازنة حكومياً، أياً كان شكلها، خصوصاً أنّ "رحلة الموازنة" لا تنتهي في مجلس الوزراء، بل إنّ صيغتها النهائية تُقَرّ في مجلس النواب. ومن هنا، يُتوقَّع أن يتمّ اللجوء إلى "التصعيد" تزامناً مع بدء مناقشة الموازنة في البرلمان، بل إنّ كثيرين يتوقّعون تكرار المشهد الذي رافق بعض الجلسات النيابية المفصليّة، على غرار جلسات التمديد للبرلمان السابق، سواء من "محاصرة" لمبنى مجلس النواب، أو محاولة منع النواب من الوصول إلى مقرّ البرلمان، وصولاً إلى رشقهم بالبيض والبندورة.
"الأخطاء" تتكرّر؟!
بمُعزلٍ عن المكان الذي يمكن أن يوصل إليه تحرّك المجتمع المدني، فإنّ عوامل عدّة دفعت كثيرين إلى استذكار تجربة العام 2015، علماً أنّ مجموعة "طلعت ريحتكم" التي طبعت "حراك 2015" تصدّرت المشاركين في الحراك المستجدّ، والذي رُفِعت خلاله الشعارات نفسها أيضاً على غرار "يسقط يسقط حكم الأزعر"، وإن أضيفت أخرى من وحي المناسبة، على غرار "يسقط يسقط حكم المصرف"، و"يا للعار ويا للعار دولتنا دولة تجار".
وعلى غرار العام 2015، لم تغب مظاهر "العنف"، إن جاز التعبير، عن "الحراك"، سواء من خلال محاولة مجموعاته إقفال مداخل السراي لمنع الوزراء، أو من وصفتهم بـ"اللصوص"، من الوصول إليه، أو من خلال الاشتباك مع القوى الأمنيّة التي اتّهمها الناشطون بالاعتداء عليهم بالضرب لفتح الطريق أمام الوزراء، علماً أنّ المفارقة التي سُجّلت مرّة أخرى تمثّلت بحضور مئات العناصر من القوى الأمنية، في تحرّكٍ لم يشارك فيه سوى العشرات، على أبعد تقدير.
ولأنّ "حراك 2015" انتهى من دون أن يوصل إلى الغاية المرجوّة منه كما يعلم كثيرون، بعدما انقسم على نفسه، تكثر التساؤلات عن إمكان تكرار الأخطاء أو "الخطايا" نفسها اليوم، علماً أنّ البعض سجّل سلفاً الملاحظة الأولى على الحراك الذي اختار أن يكون "منفصلاً" عن تحرّكات الذين سبقوه، في مشهدٍ بدا "مريباً" برأي كثيرين، إذ بدل أن يعمل المجتمع المدني على توحيد المتضرّرين الذين يتظاهرون "بالمفرّق"، جاء ليسهم بتعميق مشهد الانقسام والشرخ عبر إضافة تحرّك "محدود" آخر، في حين كان بالإمكان تنظيم الصفوف، وصولاً إلى تحرّك واسعٍ وأكثر تأثيراً بطبيعة الحال.
وفي حين يتساءل البعض عن أهداف الحراك، وما إذا كانت ستبقى محصورة بمشروع الموازنة، والخفايا والألغاز الكامنة خلفه، أم ستتوسّع، وصولاً إلى "إسقاط النظام" كما حصل في العام 2015، بما يمكن أن يؤدّي إلى التشويش على المطلب الأساسيّ، فتضيع البوصلة مجدّداً، لا تبدو الرهانات كبيرة على الحراك "المُجَرَّب"، والذي لا يبدو أنّه تغيّر خلال أربع سنوات، علماً أنّ هناك من يبرّر عدم توحيد الصفوف بالقول إنّ المتظاهرين الآخرين لا يدفعون باتجاهه، لخشيتهم أن يؤدي ذلك إلى "تشويه" تحرّكهم، عبر خلق "فوضى" قد لا تكون في صالحهم، خصوصاً إذا ما تكرّر مشهد العام 2015 بحرفيّته.
الحكومة "محصَّنة"؟!
بمُعزَلٍ عن كلّ الدوافع والأسباب التي أعادت المجتمع المدني وغيره إلى الشارع، يمكن القول إنّ عقبة أساسية تبقى حائلاً دون تحقيق أيّ كان لأيّ نتيجة، وتتمثل في "الحصانة" التي تتمتع بها الحكومة، التي تضمّ في تشكيلتها معظم الأحزاب السياسية الفاعلة.
قد يقول قائل إنّ في الأمر مبالغة، باعتبار أنّ مثل هذه "الحصانة" تصبح تلقائياً في خبر كان، عندما تمسّ الحكومة بلقمة عيش المواطنين، وترفع الضرائب أو تخفض الرواتب، وإن كانت جاءت أصلاً بعنوان التبشير بالإجراءات القاسية وغير الشعبوية، تحت شعار الإصلاح.
إلا أنّ تجربة 2015 لا تزال ماثلة في الأذهان، حين واجه شباب الأحزاب حراكاً كان يفترض أن يوحّدهم، أقلّه بشعاراته المبدئيّة رفضاً للغرق في النفايات، بغضّ النظر عن "النوايا المبيّتة" التي يتحدّث عنها البعض، تجربة لا شكّ أنّها ستتكرّر في اللحظة التي تشعر فيها الأحزاب بسخونة الموقف...