كشفت المناقشات الجارية لمشروع الموازنة الغطاء عن السياسات غير المدروسة والفاشلة التي كانت تتبع في الماضي في مقاربة الأوضاع الاقتصادية والمالية في لبنان، وأظهرت العقد التي تبرز يومياً وتحول دون الوصول إلى مرحلة إقرار هذه الموازنة في مجلس الوزراء الحاجة الملحة لاعتماد سياسات اقتصادية ومالية مبنية على دراسات وخطط تلحظ الواقع العام في البلد بعيداً عن القرارات العشوائية التي طالما كانت تتخذ إما لغايات سياسية أو انتخابية والتي اوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.
ما يجري من مداولات حول مشروع الموازنة ليس غريباً عن الواقع السياسي الموجود، حيث كانت هذه المداولات تمتد لأيام في مجلس الوزراء وتأخذ اسابيع لكشف طريقها الى التصديق في مجلس النواب لتصبح نافذة، لكن الجديد في هذه المرحلة هو ان السلطة التنفيذية غير قادرة على مواجهة الحالة الاعتراضية التي تواكب عملية المناقشات والتي وصلت الى شل الكثير من القطاعات الانتاجية وصولاً الى مصرف لبنان رفضاً للمس برواتب الموظفين والمتقاعدين وأي مكتسبات مالية تؤثر على نمط حياة من ستطالهم التدابير المالية، وهذا التوجه لدى الرأي العام يبدو انه أخذ فعله لدى القوى السياسية التي لا ترى من بد من التعامل مع هذه المطالب بروية وحكمة منعاً لتفاقم الامور وتحول الحالات الاعتراضية السلمية الى ثورة اجتماعية من الصعب التكهن الى ما ستؤول اليه في ظل الاوضاع الاجتماعية المتردية وحالة البطالة التي يرتفع منسوبها يوماً بعد يوم.
صحيح أن الموازنة ستبصر النور في نهاية الأمر، ولكن إن أي دعسة ناقصة في مجلس الوزراء اولاً وفي مجلس النواب ثانياً ستكون لها عواقب على الوضعين الاقتصادي والمعيشي اللذين يقفان على عتبة الانزلاق باتجاه الهاوية على الرغم من التطمينات المحلية والدولية والتي تكون في بعض الاحيان مبالغ فيها.
مما لا شك فيه بأن الحكومة تقارب الموازنة اليوم وهي واقعة بين مطرقة الاعتراضات في الشارع وهو أمر لا يمكن تجاهله والقفز فوقه، وبين سندان العتب الدولي الذي كان يأمل ان تقر الموازنة بسرعة بعد مضي اكثر من عام على مؤتمر «سيدر» والوعود التي قطعتها الحكومة اللبنانية بشأن الاصلاحات التي يفترض ان تترجم في هذه الموازنة والتي تعد شرطاً اساسياً لدى الدول المانحة لتقديم المساعدات المالية للبنان لكي يتمكن من تنفيذ بعض المشاريع التي تعيد الحيوية والحركة للقطاع الاقتصادي وتخفف من اعباء الدين العام.
وامام هذا المشهد التي لا تحسد عليه فإن الحكومة تجد نفسها مضطرة للخلاص من درس الموازنة وارسالها الى مجلس النواب في اقرب فرصة للحد من الضغوطات التي تمارس عليها من الداخل على مستوى ما يجري في الشارع، ومن الخارج في ما خص الحث الدولي المستمر لاقرار الموازنة لفتح الطريق امام المساعدات التي اقرها مؤتمر «سيدر» للبنان، لكن هذا بالطبع لن يكون نهاية المطاف، فلو سلمنا جدلاً ان الحكومة انتهت من درس مشروع الموازنة هذا الاسبوع كما يرغب رئيس الحكومة سعد الحريري، فإن امام هذه الموازنة رحلة ليست قصيرة وستكون وفق المعطيات الموجودة شاقة ومتبعة تحت قبة البرلمان حيث سيخضع المشروع الذي ستحيله الحكومة الى المجلس الى الكثير من النقاش والتمحيص في لجنة المال التي سترفعه بدورها بعد ان تقوم بتشريحة ووضع الملاحظات عليه الى الهيئة العامة التي ستتحول بدورها على مدى ايام الى حلبة مصارعة بين القوى السياسية التي ستغني كل واحد منها على ليلاها ووفق ما يؤمن لها مصالحها.
وفي تقدير مصادر نيابية ان مجلس الوزراء في حال انتهى من هندسة الموازنة هذا الاسبوع فإنه من المتوقع إحالتها الى المجلس النيابي الاسبوع المقبل الذي سيكون على دراستها في لجنة المال قبل الوصول الى الهيئة العامة التي ستصول وتجول في مناقشاتها لاخراج موازنة تراعي الواقع العام في الداخل كما الخارج.
واشارت المصادر الى ان الحكومة مجبرة على تخفيض العجز الى ما دون الـ9 بالمئة، وفي المقابل عليها الحذر من مد اليد الى جيوب اصحاب الدخل المحدود والطبقة الفقيرة، مذكرة بما سبق وحذر منه رئيس المجلس نبيه بري بأنه سيرفض اي موازنة يبقى العجز فيها على ما هو عليه 11،5 بالمئة وانه في حال اخفقت الحكومة في تخفيض العجز فالأفضل ان لا تحيل هذه الموازنة الى مجلس النواب.
وفي رأي هذه المصادر فإن في كلام رئيس المجلس دلالة واضحة بأن مجلس النواب سيقارب بكثير من الحذر والروية وهو لن يتوانى عن اسقاط التعديلات التي يراها ضرورية على الموازنة لتجنب الوقوع في اية مواجهة مع الرأي العام الذي سيبقى يرصد هذه المناقشات ومنع أي مسّ بحقوقه ولقمة عيشه.