تحلّ الذكرى 71 لنكبة فلسطين والأمة جمعاء، والمعركة لا تزال مستمرة بين الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة مسنودة من الدول التي ترفض الاحتلال والاستعمار والتبعية له، ومن قوى وحركات التحرّر العربية والدولية، وبين عدو صهيوني استيطاني عنصري نازي، مدعوماً من الولايات المتحدة الأميركية أقوى دولة استعمارية، ومن الدول الغربية، وأنظمة عربية رجعية تابعة تسوّق لتمرير المخططات الأميركية الصهيونية لتصفية قضية العرب الأولى، من خلال محاولة فرض صفقة القرن، تماماً كما عملت على تسهيل غزو واغتصاب واحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية، أوائل القرن العشرين، ووفرت الغطاء لتنفيذ وعد بلفور البريطاني بتمكين المجرمين الصهاينة من احتلال فلسطين وتشريد أبنائها، وإعلان دولتهم الصهيونية وحصولها على اعتراف دولي، في أكبر عملية سطو لأرض فلسطين، بغطاء من المنظمة الدولية التي يفترض بها أن تحمي حق الشعوب، وتردع المعتدين عليها، وتمنع فرض قانون شريعة الغاب..
غير أنّ محاولة تمرير وعد بلفور الأميركي الجديد، المتسلّل عبر ما سمّي بصفقة القرن، لا يبدو أنّ الظروف متاحة للمخططين لفرضه، على غرار ما أتيحت الظروف عشية فرض وعد بلفور البريطاني.. غير انّ الوعد الأول، وانْ نجح في فرض قيام دولة الاحتلال والحصول على اعتراف دولي بها، إلا أنه فشل في إنهاء وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وأخفق في إخضاعه ومحو هويته الفلسطينية، كما أنه فشل أيضاً في القضاء على مقاومته، التي استمرت على مدى العقود السبعة الماضية دون توقف، وشهد بداية العقد السابع تطوّراً هاماً في هذه المقاومة، تجسّدت في إدخال الكيان الاحتلالي وحركته الصهيونية في أزمة عميقة مزدوجة.. أزمة وجود وفقدان الأمان والثقة بالمستقبل، وعدم القدرة على تحقيق الحلم الصهيوني في شطب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.. ما يجعل الظروف أمام محاولة فرض وعد بلفور الأميركي غير مواتية، بل إنها على النقيض تماماً مما تريده كلّ من تل أبيب وواشنطن.. وتتجسّد هذه الظروف بالعوامل التالية:
أولاً: يجد كيان العدو نفسه، بعد واحد وسبعين عاماً، انه أصبح أمام ما يسمّيه هو بالقنبلة الديموغرافية التي تتمثل في ازدياد أعداد الفلسطينيين المقيمين على أرض فلسطين التاريخية ليتجاوز عددهم عدد المستوطنين الصهاينة ما يشكل أكبر فشل لمخطط العدو الذي هدف إلى إفراغ فلسطين من سكانها الأصليين وتغيير الوضع الديمغرافي لمصلحة جعل الصهاينة أغلبية كاسحة، وهذا العامل الديمغرافي يجعل كلّ المخططات الصهيونية لتهويد فلسطين ونفي وجود الشعب الفلسطيني مستحيلة، أما إعلان الدولة اليهودية فإنه يجعل منها دولة عنصرية تحكم شعباً وفق نظام التمييز العنصري على غرار ما كان سائداً في جنوب أفريقيا أيام نظام الفصل العنصري، الذي انهار وسقط بقوة مقاومة الشعب هناك، أما القبول بقيام دولة ديمقراطية، يتساوى فيها الفلسطينيون واليهود، فإنه يعني انتحار المشروع الصهيوني واضمحلاله عبر صناديق الاقتراع التي ستجعل الأغلبية العربية قادرة على الفوز في الانتخابات، وبالتالي ردّ الاعتبار لهوية فلسطين العربية، ولهذا فإنّ كيان العدو يرفض القبول بهذا الخيار الديمقراطي ويريد أن يؤدّي الحلّ النهائي إلى الانفصال عن الكتلة السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وجعلها مرتبطة بنوع من الحكم الفدرالي مع الأردن، لكن مع بقاء الأرض تحت السيادة الإسرائيلية..
ثانيا: كما أنّ كيان العدو، بات يواجه مقاومة متطوّرة ومتمرّسة على مجابهته، بعد أن نجحت في تحرير قطاع غزة على الطريقة اللبنانية، وتحويل القطاع إلى قاعدة للمقاومة، تمكّنت مع الوقت من بناء قدرات ردعية في مواجهة جيش الاحتلال وهزّ استقرار وأمن الكيان الصهيوني، وتحويل حياة المستوطنين في جنوب فلسطين المحتلة إلى جحيم، فيما تل أبيب وغيرها من مدن الاحتلال الأساسية الحيوية، سياسياً واقتصادياً، باتت في مرمى صواريخ المقاومة، وقد اختبر العدو ذلك عندما نجحت المقاومة خلال عام 2014 في قصف هذه المدن وشلّ الحياة فيها مما أجبر العدو على وقف عدوانه من تحقيق أيّ من أهدافه، وهو الأمر الذي تكرّر في أعقاب كلّ اعتداءاته التي حصلت لاحقاً وفشلت في تغيير قواعد الاشتباك أو التخلص من معادلة الردع التي فرضتها المقاومة..
ثالثاً: تبدأ البيئة في المنطقة في غير مصلحة المشروع الصهيوني الأميركي الرجعي العربي.. وأيّ مدقق في واقع المنطقة يلحظ هذا التبدّل الهامّ في خارطة توازن القوى لمصلحة دول وقوى المقاومة والتحرّر التي تناضل وتكافح لإنهاء الهيمنة الاستعمارية والاحتلال الصهيوني لفلسطين والأراضي العربية في الجولان السوري وأجزاء من الأراضي اللبنانية.. فالمشروع الأميركي الصهيوني للقضاء على محور المقاومة والتحرّر في المنطقة أخفق ومُني بهزيمة كبرى في سورية ولبنان والعراق واليمن وإيران، وأدّى ذلك إلى تعزيز قوى المقاومة في فلسطين، وبالتالي التسبّب في مأزق كبير لقوى المشروع الأميركي الصهيوني الرجعي العربي.. تجسّد في تنامي مأزق القوة الصهيونية العاجزة عن تحقيق النصر على قطاع غزة المحاصر، وتجسّد في فشل محاولة تعويم مشروع الهيمنة الأميركية الأحادية، وفي دخول الأنظمة الرجعية التابعة في أزمة، هي الأولى من نوعها، وفي مقدّم هذه الأنظمة وأخطرها، في التآمر على قوى المقاومة والأنظمة التقدّمية، النظام السعودي، الذي أصبح يعاني من مأزق كبير وأزمة عميقة نتيجة إخفاق حربه في اليمن في تحقيق أهدافها، وتحوّلها إلى حرب تستنزف قدراته المالية والاقتصادية، إلى جانب الخسائر البشرية، وهو بات استنزافاً من العيار الثقيل، لا سيما بعد تطوّر قدرات حركة أنصار الله والجيش اليمني، وانتقالهما إلى الهجوم على جبهات القتال في العديد من المناطق في ظلّ انهيار في معنويات قوى العدوان والمرتزقة، والنجاح في شنّ هجوم نوعي بالطائرات المسيّرة وتدمير مضختي نفط سعوديتين قرب الرياض وتوقف تدفق النفط عبر أحد الأنابيب التي يمرّ عبره نحو 3 ملايين برميل من النفط يومياً.. الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة في دوائر القصر الملكي السعودي وفي واشنطن..
انّ ايّ انتصار وتقدّم قوى التحرّر العربية في اليمن والعراق وسورية ولبنان، ونجاح الجمهورية الإسلامية الايرانية في إحباط المخططات الأميركية الصهيونية والرجعية العربية، الهادفة إلى تقويض نظامها التحرري، إنما يشكل سنداً وقوة للمقاومة والانتفاضة في فلسطين، ويوجه ضربة قاصمة لمشروع تصفية قضية فلسطين ويعمق مأزق المشروع الصهيوني…
يبقى أن تستفيد قوى المقاومة في فلسطين من هذه التحوّلات الهامة، التي تصبّ في صالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، بأن تنتقل في أدائها، على المستويات كافة، من خلال بلورة استراتيجية وطنية تحرّرية شاملة تشكل الإطار الذي ينظم النضال الوطني ضدّ الاحتلال، ويعيد استنهاض جماهير الأمة إلى جانب قضية فلسطين، واستعادة التضامن الأممي معها…