حتى اليوم، كان الشائع أنّ مشكلة لبنان الوحيدة تكمن في إسرائيل التي تطمع بـ860 كيلومتراً مربعاً من مياهه، وتريد أن تسطو على مخزوناته من الغاز والنفط. حتى إنّ البعض يرى في هذه الأطماع - وحدها- ما يبرِّر استمرار المقاومة المسلّحة. ولكن، في المقابل، يسود الصمت حول مساحةٍ أكبر من المياه اللبنانية (بين الـ900 كلم2 و1000 كلم2) من المياه اللبنانية، تصرّ سوريا على اعتبارها جزءاً من أرضها. والأرجح أنّ لبنان على وشك الدخول في مواجهةٍ مع «طموحات» الشقيق، فيما ستنطلق المفاوضات، بوساطة أميركية، حول «أطماع» العدو.
يقول وزير النفط السوري علي غانم، إنّ الاحتياطي المقدّر في بلوك بحري واحد من الغاز من أصل 5، في المياه الاقتصادية السورية الخالصة، يعادل احتياطي ما يوجد في البرّ السوري كاملاً. وقَدَّر الحجم بـ250 مليار متر مكعب في كل من هذه البلوكات.
وطمأن إلى أنّ عمليات الاستخراج تجارياً هناك ستبدأ في العام 2023، بعدما تمَّ إبرام عقد مع شركة «سويوز نفط غاز إيست ميد» الروسية للتنقيب عن الغاز في البحر، علماً أنّ اتفاقاً كان جرى توقيعه مع الروس في العام 2013 حول بلوك آخر. وقد بدأت الشركة أعمال الاستكشاف والتنقيب هناك في تشرين الأول الفائت.
وفيما يضغط النظام في سوريا للبدء باستثمار موارده من الغاز في مياهه البحرية، فإنّ معظم مخزوناته في البرّ لم تعُد تحت سيطرته. وهو يضع يده فقط على الآبار الواقعة في محافظة حمص، وأما الآبار المهمّة الموجودة في الجزيرة والفرات فهي واقعة في يد «قوات سوريا الديمقراطية»، حليفة الولايات المتحدة.
إذاً، السوريون باشروا عمليات استثمار الغاز والنفط قبالة شواطئهم بالتزامن مع دينامية لبنان السريعة لاستثمار موارده النفطية أيضاً قبالة شاطئه. وسيتزامن الاستثمار هنا وهناك. وهذا ما يجعل الملف أمام احتمالين في موعدٍ قريب جداً: إما دخول الطرفين في مفاوضات حدودية لفكّ الاشتباك، وإما الدخول في اصطدام. وهذا أمر لا يصبُّ في مصلحة أي منهما.
وإذا كان لبنان قد نجح في فكّ الاشتباك البحري الحدودي جنوباً مع إسرائيل، نتيجة الجهود المكوكية التي قام بها مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد، فالأحرى أن يفكّ اشتباكه مع سوريا شمالاً. ومن المثير أن يستطيع لبنان تعطيل اللغم مع إسرائيل قبل أن يعطّله مع سوريا.
الإسرائيليون كانوا واضحين (وقحين) منذ البداية. فقد هدَّدوا بتعطيل عمل أي شركة في البلوك الرقم 4، الحدودي، ما لم يتم الاتفاق معهم على الترسيم.
ويبدو أنّ الضمانة الأميركية ستتكفل بإنهاء هذه الأزمة. ولكن، في الموازاة، يبدو السوريون صامتين وموقفهم ملتبس. فلم يعلنوا حتى اليوم ما سيفعلونه إذا بدأ لبنان باستثمار البلوكين 1 (1928 كلم2) و2 (1798 كلم2) الواقعين على الحدود. فهل سيقومون أيضاً بمنع الشركات التي ستتولّى عمليات التنقيب والاستخراج من القيام بعملها؟
ومع إطلاق لبنان الدورة الثانية من التراخيص، والتي ستستمرّ حتى نهاية كانون الثاني المقبل، يبدو الاستحقاق ساخناً. ففي هذه الدورة، سيتم الانتهاء من عمليات التلزيم في كل البلوكات. وثمة جاذبية استثنائية للبلوك الرقم 2، على الحدود السورية، لأنّ مواصفاته الجيولوجية تبدو أفضل لجهة الحفر.
يقول البعض، إنّ الطرف الوحيد القادر على حلحلة أزمة الحدود البحرية بين لبنان وسوريا هو موسكو، لأنّها هي التي ترعى حصراً استثمار الغاز في البحر السوري، وهي موجودة في التحالف الذي يتولّى القطاع في الجانب اللبناني. وقد أضيفَ إلى ذلك الاتفاق الذي تمّ إبرامه أخيراً بتسليمها عمليات التأهيل في مصفاة طرابلس.
ولذلك، هناك اعتقاد بأنّ الروس ربما يتحيَّنون الفرصة للقيام بوساطة بين لبنان والنظام السوري، تحت عنوان الترسيم، شبيهة بالوساطة التي يقوم بها الأميركيون بين لبنان وإسرائيل. ومن خلالها، هم يطمحون إلى تدعيم سيطرتهم على أكبر قدر من الموارد النفطية على الشاطئ اللبناني- السوري، توازياً مع سيطرتهم العسكرية بالقواعد والترسانة البحرية. ولكن، في أي حال، إنّ الجهة الوحيدة التي ستتولّى رعاية أي مفاوضات وتشريع أي اتفاق حدودي، سواء بين لبنان وسوريا أو بينه وبين إسرائيل هو الأمم المتحدة. وهذا الموقف هو الذي تلتزمه قوى 14 آذار في لبنان.
لكن المشكلة هي أنّ سوريا لا تريد حتى اليوم «إقحام» المنظمة الدولية بملف الحدود مع لبنان، على رغم الالتباسات الخطرة الواقعة براً، من مزارع شبعا جنوباً حتى الهرمل وعكار شمالاً. وطبعاً، هي لا تريد تزويد الأمم المتحدة بأي وثيقة تثبت لبنانية المزارع، بما ينهي الجدل الساخن حول هويتها السيادية. واستتباعاً، يلتزم حلفاء سوريا اللبنانيون هذا الموقف، ولا يطالبونها بأي إجراء قانوني أو سياسي، ولا يتهمونها بابتلاع جزء من الأرض والسيادة… على غرار ما تفعل إسرائيل. ولكنهم بالتأكيد يؤيّدون المفاوضات المباشرة معها للبحث في كل المسائل: الحدود والنازحين وسوى ذلك.
إذاً، هناك مفارقة مثيرة. فالموقف اللبناني موحّد في ملف الحدود البحرية مع إسرائيل، ومنقسم حول الحدود مع سوريا، مع أنّ اللبنانيين متوافقون على الحدود نفسها. وهذا الانقسام يثير المخاوف من ضياع الحقّ اللبناني بين أيدي المتنازعين.
فهناك تنافس أميركي- روسي محتدم على النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، كجزء من الصراع على خريطة الشرق الأوسط، اقتصادياً وعسكرياً، وبالتالي سياسياً.
فالروس يمسكون بالنظام السوري تماماً، وقد قاموا بتطبيع علاقاتهم مع تركيا والخليجيين والعديد من دول المنطقة. وهم يستعدون لرعاية أي تسوية سياسية في دمشق والاضطلاع بأوسع دور في إعادة الإعمار، ومن ثم التوسّع للعب أوراقٍ أخرى، ومنها الورقة اللبنانية.
وحتى اليوم، تلقّى الروس كثيراً من الدعوات إلى الانخراط في مهمّات ساخنة بين لبنان وسوريا، وأبرزها إعادة النازحين وترسيم الحدود براً وبحراً. ويتردّد أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كان في وارد دعوة موسكو إلى الانخراط في مجالات أكثر عمقاً، لولا «الفيتو» الأميركي قبل أيام من الزيارة الرئاسية لموسكو.
الأرجح، أنّ روسيا ستحاول تحقيق إنجاز في الترسيم البحري بين لبنان وسوريا، أولاً للانطلاق باستثماراتها بأمان، وثانياً لئلا يقال أنّها فشلت في الوساطة حول ملف الحدود البحرية مع سوريا فيما نجح الأميركيون في الملف المقابل مع إسرائيل.
بعض المتابعين يقول بسخرية: مشكلة الحدود البحرية بين لبنان وسوريا قد يسعى الروس إلى حلّها وفقَ مثَل القرد والقطتين وقطعة الجبنة، أي أن يذهب مخزون الغاز في مساحة الـ1000 كيلومتر مربع في جيب الشركات الروسية… سواء أعلن اللبنانيون أو السوريون سيادتهم عليها!