وسط الزحمة الكثيفة في المعزّين بالبطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير، وفي ظل الانشغال بمراسم التشييع، كان هناك من هو مهتمّ برصد سلوك «حزب الله» تحديداً، والتدقيق في طريقة تعاطيه مع هذه المناسبة.
لم تكن العلاقة بين «حزب الله» وصفير على أفضل ما يرام خلال فترة تولّيه سدة البطريركية المارونية، بل انّ خلافهما حول سلاح المقاومة والعلاقة مع سوريا كان استراتيجياً وعميقاً، الأمر الذي وضع كلّاً منهما على ضفة مقابلة للأخرى، بحيث تولّى صفير رعاية «لقاء قرنة شهوان» واحتضان فريق 14 آذار، فيما شكّل «الحزب» قاعدة ارتكاز لقوى 8 آذار.
مع ذلك، وعلى رغم من حدة الاصطفاف، استمر التواصل قائماً ولو بوتيرة متقطعة وأوقات متباعدة، على قاعدة احترام كلّ من الطرفين لخصوصية الآخر وموقعه.
كان «الحزب» يعرف أنه لا يصحّ قطع كل الجسور مع رمز الكنيسة المارونية في لبنان، والذي فرضت الظروف أن يصبح ايضاً الممثّل السياسي لشريحة واسعة من المسيحيين خلال الفترة الممتدة بين 1991 و2005، كما انّ صفير كان يعلم أنه لا تجوز القطيعة مع مكوّن شيعي هو أساسي في المعادلة الداخلية ووازن في المعادلة الاقليمية ربطاً بدوره في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي.
حَكمت هذه الواقعية مسار العلاقة بين «الحزب» وبكركي على امتداد سنوات طويلة، هي واقعية سمحت بالتعايش مع الخلاف لكنها لم تكن كافية بالتأكيد لتحقيق التقارب.
ومع وفاة صفير، لم يتأخر «الحزب» في المبادرة الى تقديم العزاء الى البطريرك الماروني بشارة الراعي في اليوم التالي، على أساس انّ التعزية هي واجب اجتماعي - أخلاقي منفصل عن أي اعتبار آخر. لم يخلط «الحزب» بتاتاً بين خلافاته السياسية مع خيارات صفير وبين احترام حرمة الموت وضرورة مواساة بكركي في مصابها.
و«حزب الله» الذي يدرس بدقة كل تصرّف يمكن ان يبدر عنه، تَعمّد اختيار وفد «وازن» لتقديم واجب العزاء، ترأسه رئيس المجلس السياسي وعضو الشورى السيد ابراهيم أمين السيد، وضَمّ الوزير محمود قماطي والنائبين علي عمار وأنور جمعة وعضوي المجلس السياسي ابو سعيد الخنسا ومصطفى الحاج علي. أراد «الحزب» ان يوجّه من خلال تركيبة الوفد رسالة لا تخلو من الدلالات الى الراعي، أهمها تقدير مقام بكركي والتعاطف مع حزنها.
وعُلم انّ الراعي بدوره استقبل ممثلي «الحزب» بكل لياقة واهتمام، وكان ودياً و»دافئاً» خلال اللقاء الذي لم يسمح وقته القصير في الصالون المزدحم بالاستفاضة كثيراً في الكلام، ما دفعَ البطريرك الى مخاطبة رئيس الوفد بالقول: «خَلّينا نشوفكم قريباً ونحكي في الوضع العام».
والى جانب ذلك، حرصت قناة «المنار» ايضاً على نقل مراسم التشييع وكلمة الراعي مباشرة على الهواء، إنسجاماً مع مقتضيات المناسبة وتأكيداً لكون «الحزب» وبيئته يشكّلان جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي اللبناني، علماً انّ قرار النقل المباشر لحدث من هذا النوع ليس «إعلامياً» فقط، بل هو «سياسي» بالدرجة الاولى.
ويؤكد العارفون انّ العلاقة الحالية بين «حزب الله» والبطريركية المارونية ليست سيئة، على رغم من التباينات والتمايزات حيال أكثر من ملف، لافتين الى انّ «الحزب» يحرص تقليدياً على المشاركة، بالطريقة الملائمة، في المحطات التي تخصّ البطريركية المارونية، وتحمل طابعاً اجتماعياً او دينياً.
ويوضح هؤلاء انّ لجنة الحوار التي تضمّ ممثلين عن الجانبين لا تزال تجتمع من حين الى آخر بعيداً من الاضواء والضوضاء، في سياق تبادل الآراء حول المسائل التي تكون موضع اهتمام مشترك. وتَتكوّن اللجنة من أحد المطارنة وحارث شهاب والوزير محمود قماطي وابو سعيد الخنسا ومصطفى الحاج علي.
ويشير العارفون الى انّ هناك علاقات قائمة بين «الحزب» ومعظم القوى المسيحية، وإن تكن تتدرّج في «علاماتها» من ممتازة الى جيدة فعادية تبعاً لهوية الطرف الآخر، وبالتالي فإنّ الانفتاح على بكركي يندرج في هذا الاطار.