لم يعد خافياً أن الإدارة الأميركية تعيش حالة من التخبط وانعدام الثقة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب من جهة، وبين صقور الأنكلوسكسون المتمثلة بمستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وجنرالات الحرب من جهة ثانية.
مهندس التصعيد والحشد العسكري ضد إيران في الخليج جون بولتون، يفتعل ما سماه «أنشطة إيرانية» بناء على تقارير استخباراتية مزعومة لم يعد خافياً بأنها تقارير تحمل البصمات الإسرائيلية، كما درجت عادة «الموساد»، بعد أن تولّى بولتون قيادة الدفّة لوضع أحلامه المسيحية الصهيونية وخطّط تفاصيلها موضع التنفيذ قبل وصول ترامب إلى الحكم. وفي سياق رئاسة ترامب، تسنّى لبولتون أن يتصدّر مطبخ العمليات الأيديولوجية والاستخباراتية في فرق العمل المتشعبة، مع مايك بومبيو ومايك بنس وجاريد كوشنر، لتحقيق أساطير تلمودية بحسب الهرطقة المسيحية الصهيونية. وفي هذا المسار، دمجت فرق العمليات الرغبة الجامحة لكل من السعودية والإمارات العربية لإحراق المنطقة وتنصيب إسرائيل على أشلائها، بعد أن تحققوا من منعة إيران على الانصياع للغطرسة الأميركية، وقدرتها على منع إدارة ترامب من فرض إسرائيل في المنطقة، بحسب معتقدات أساطير أنكلوسكسونية.
فرصة الأحلام التلمودية الأسطورية تلوح أمام بولتون وبومبيو، بعد تقديم جاريد كوشنر ما بات يُعرف بـ«صفقة القرن»، بمشاركة السعودية والإمارات وتأييد غيرهما من دول عربية من تحت الطاولة. ولعل بولتون يراهن على حظ أفضل لاقتناص هذه الفرصة، في أجواء زيادة التوتر في المنطقة والتصعيد ضد إيران. وفي هذا الإطار اقتنص بومبيو فرصة الأحداث الأخيرة لجرّ قيادة الأركان الوسطى الأميركية والبنتاغون للحشد في الخليج «على سبيل الاحتياط» على ضوء التقارير الاستخباراتية المزعومة، آملاً بالضغط على إيران وإشباع شهوة السعودية والإمارات بقرع طبول الحرب.
فإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، و«صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، ودعم الإرهاب في سورية والعراق ومصر، والانسحاب من معاهدة الصواريخ مع روسيا، وحصار فنزويلا، والحرب التجارية مع الصين، هي حروب هجينة أميركية – أنجلوسكسونية واحدة، تضم «إسرائيل»، وتجري على جبهات متعددة، وهي تشكل مرحلة كاملة في تحولات النظام الدولي الجديد. وإحدى عِبَر حادثتي الفجيرة والمنطقة الشرقية، هي أن واشنطن وحلفاءها، لا يمانعون في جعل دول «التعاون الخليجي»، ولاسيما الإمارات والسعودية، عتبة «الجبهة الأنكلوسكسونية» المتداعية.
السعودية والإمارات ذات الباع الطويل في التحريض على الحرب ضد إيران، تظنان بأن الحرب تشفي غليلهما، على عادة المثل الشائع «عليَّ وعلى أعدائي». وما يدلّ على الغِلّ المشحون بالتسمم لا يساور بعض العقلاء في المنطقة، ولاسيما عقلاء الخليج، بأن حريق الحرب نفسها تلبي جموح بولتون وبومبيو لإعادة المنطقة إلى القرون الوسطى، وإثبات أسطورة المسيحية الصهيونية في «أرض إسرائيل».
في المقلب النقيض لرغبة بولتون- بومبيو، يعيش الرئيس الأميركي مع إيران، ظروفاً مطابقة للظروف التي رافقت سلفه الرئيس الأميركي السابق جون كنيدي خلال معالجة أزمة نشر الصواريخ الروسية في كوبا عام 1962، لكن صواريخ اليوم إيرانية، حيث واجه كنيدي آنداك ضغطاً هائلاً داخل إدارته من جنرالات البنتاغون، تدفعه لشن حرب على جزيرة كوبا لتدمير الصواريخ المنصوبة في الجزيرة لكبح جماح روسيا. هذا من جهة، ومن الجهة الأهم ضرب الثورة الكوبية وقلب النظام فيها، لتطويعها، ولتغدو جزيرة عادية تابعة وتحت السيطرة الأميركية.
لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل. ونتيجة الموقف الحازم لكنيدي وبتشجيع من روبرت كنيدي، تم تفعيل القنوات الخلفية مع روسيا التي أعطت ثمارها وأنتجت اتفاقاً بسحب الصواريخ الروسية من كوبا مقابل سحب صواريخ أميركية من تركيا، واكتفت أميركا بفرض حصار اقتصادي على كوبا لم يزل سارياً حتى اليوم. وهكذا تم تجنيب العالم حرباً عالمية مدمرة.
الرئيس ترامب خرج إلى العلن نافياً نية أميركا إرسال 120 ألف جندي من قوات المارينز إلى منطقة الخليج، وذلك بعد ساعة واحدة من نشر الخبر على صفحة مجلة «نيويورك تايمز»، في خطوة واضحة تدل على وقوف ترامب بوجه نيات جنرالات الحرب، ومنهم ممثلو الأنكلوسكسون بولتون وبومبيو وبنس.
وفي خطوة تعبر عن رفض ترامب للحرب، بادر للاتصال بوزير دفاعه بالوكالة شاناهان، لإبلاغه بضرورة تجنب الحرب مع إيران وأن لا نية لأميركا بالحرب في منطقة الخليج.
وبهدف إقفال الطريق على فريق الحرب الأنكلوسكسوني في الإدارة الأميركية، خرج ترامب ليقول «نرغب في التفاوض مع إيران، ونسعى لإبرام صفقة جديدة معها، ونحن نجلس جانب الهاتف بانتظار اتصال من إيران للتفاوض لكن لم نتلق أي اتصال حتى اللحظة».
في المقابل ردت إيران أن لا تفاوض تحت الضغط والعقوبات، وبعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي. وفي خطوة أكثر تقدماً أعلنت إيران أنها ليست جاهزة للتفاوض مع الأميركي.
السجال الأميركي الإيراني الدائر عبر الإعلام، هو دليل على مفاوضات دائرة بين الطرفين عبر قنوات خلفية، أو عبر طرف ثالث، لكنها لم تصل إلى النتيجة المرجوة بعد.
الرئيس الأميركي بدا وكأنه بحاجة إلى سلم نجاة إيراني يسمح له بالنزول الآمن من خلال تفعيل لغة التفاوض مع إيران، وخصوصاً بعد بلوغ جنرالات الحرب في البيت الأبيض أعلى درجات سلّم الحشد العسكري والشحن النفسي للحرب.
هنا يبرز السؤال عن سبب رغبة الرئيس ترامب بالتفاوض وعلى ماذا؟
حتى الآن لا مؤشرات جدية على نقاط التقاء يجري التفاوض عليها، فالرئيس ترامب وصهره كوشنر لديهما جموح في تنفيذ صفقة القرن والقضاء على القضية الفلسطينية، وبتشجيع من بعض دول الخليج الداعية لشن الحرب على إيران لمنعها من اعتراض الصفقة. إضافة إلى ذلك، هناك مشكلة تطوير مدى الصواريخ الإيرانية التي تؤرق العدو الإسرائيلي ودول الخليج، إضافة إلى تطوير برنامج إيران النووي.
إيران أعلنت من جهتها نيتها التخفيف من التزامها بالاتفاق النووي، إضافة إلى تحريم التفاوض حول برنامجها الصاروخي، لأنه يدخل ضمن السياسة الدفاعية المشروعة لإيران ويضمن سيادتها. أما بالنسبة لصفقة القرن، فالموقف الإيراني منها بات واضحاً لناحية الالتزام بالقضية الفلسطينية وبحق الفلسطينيين، وهذا من أسس التزام الثورة الإيرانية. وأيضاً لأن إيران تدرك بأنها لن تكون بمنأى عن إعادة رسم خريطة المنطقة وتوزيع شعوبها على أسس قبلية وعشائرية مذهبية وطائفية متناحرة جراء تنفيذ صفقة القرن.
إذاً، حتى اللحظة لا نقاط التقاء للتفاوض. الاتفاق الوحيد بين إيران وأميركا هو حالة اللاحرب في المنطقة. لكن هذا الالتقاء لا يمنع الفرقاء من توجيه رسائل من حين لآخر باتجاهات عدة، تقوي المراكز وأوراق التفاوض المنتظر.
المهللون للحرب أصيبوا بالخيبة، ولم يبق لحفظ ماء الوجه سوى دعوة العاهل السعودي لعقد قمتين عربية وخليجية للتباحث بالتهديدات والمخاطر التي تواجه الخليج، وخصوصاً بعدما اصطدمت رغبة الطامحين للحرب بحائط ترامب الرافض للحرب والراغب في التفاوض.
ومع الإعلان عن انعدام رغبة الأطراف في الحرب، هل تنتهز دول الخليج الفرصة لوقف الابتزاز الأميركي، واستخلاص العبر من تاريخ أزمة الصواريخ الروسية، ونجاح قنواتها الخلفية التي أنتجت اتفاقاً روسيا أميركياً، بمعزل عن موقف كوبا؟
مهما تكن نتائج القمتين العربية والخليجية، فإن تلك الدول المحرضة على الحرب إن لم تتعظ من تاريخ أزمة الصواريخ في كوبا، فإنها ستبقى خارج أي تفاوض.. وخارج التاريخ.